الجمعة، 24 يوليو 2009

فارسٌ مِنْ زَمَن ِ الحُبّ






في البَدْءِ
قلتَ للحُبِّ: "كُـنْ"،
فكانَ الرّبيعُ
والأراجيحُ
والعُطورْ
وقلتَ للحُلم ِ : " ليَأتِ ملكوتُكْ"،
فـَ .. هَوَى المشط ُ المَسحورْ
وهرولتِ الأميرةُ
إلى الفارس ِ
الــ .. حملها إلى القلاع ِ والقصورْ
فأذهلتِ النبلاءَ
وأربكتْ
ملوكَ سَالفِ العُصورْ
وقالَ الفرحُ: " لتكـُنْ مشيئتي"،
فصِرْتَ النورسَ
الـ ..جمعَ للسنونوةِ
محاراتِ البُحورْ
وصَارتِ المِسْكَ
الـ .. يـَضُوُعُ مِنْ حَولِكَ
فيحَتارُ البنفسجُ والنرجسُ والفـُلُّ
وتلتاعُ بقيّةُ الزهورْ
وظلَّ الشّوقُ شجرة
تتوَقـَّدُ ..
تتوَقـَّدُ ..
لا تحترق ُ
ولا تخـُورْ
إلى أنْ..
وقعتـُمَا..
كـَ ..فـَأرَيْن ِ هَرمَيْن ِ
في مصيدة ِ الغُرُورْ
حينَ جَالَ الشيطانُ
ينصِبُ لكمَا الفخاخَ
ويوسوسُ..
يُوسوسُ..
في الصُّدورْ ..!



الخميس، 23 يوليو 2009

Hebrew Version- Poetess Rita Odeh, Nazareth




Poetess Rita Odeh
Nazareth

ריטה עודה



همسة:

هذي جراحي
فادخلوها
آمنين




לחישה

אלה הם
הפצעים שלי
תכנסו
בתחושה של
בטחון



~





انطلاق

أكتب
فألمسَ النجومَ
في لحظة ميلادٍ
ما بينَ
موت ٍومـَـوتٍ
آخر



השתחררות

כשאני כותבת
אני נוגעת
בכוכבים
ברגע של לידה
בין מוות
למוות אחר



~





الوصايا


لا
تكسر الوصايا العشر
المنقوشة
على أبوابِ قلبينا
لئلا
نرتديَ أقمشةَ اللعنة
فتتوارثها الأجيال





הדיברות

אל תשבור
את עשרת הדיברות
החָטוּבות
על ליבנו
פן נלבש את הקללה
והדורות יירשו אותה ..!





~





شِيزُوفْرينْيـــَا

قَرَنْفُلَةً مَزْهُوَّةً
بــِشَمْسِهَا
كَانـــَتْ
قَطَفَهَا
وَعَلى رَفٍّ مـــَا
في مَنْزلٍ نــــَاء
خَلَّفَهـــــَا
مِنْ غَيْر مـــَا
مـــَاء
وَإلَى الآنْ هِيَ
أنــــــَا



סכיזופרניה

היא היתה
פרח צפורן
שפורח בשמשו
קטף אותה
אביר כלשהו
ובבית רחוק
על מדף כלשהו
בלא טיפה
של מים כלשהי
השאיר אותה
ועד כה
היא
אני




~




صليب الصّمت

علّقوني على صليب
منذ ان وُلِدتُ
وقالوا: أنثى
ثبّتوا يديّ بالمسامير
على خشبة الزمن
ثبّتوا رجليّ بالمسامير
على خشبة الغَبَن
وقالوا:
"أنثى .. أنثى !"
غسلوا أفكاري بالنار
رويدا رويدا
زرعوا حقول إرادتي
شجرة
تظلّ تتآكل تتآكل
رويدا رويدا
علّموني
كلّ أبجديّة الحَزَن
ألبسوني
كلّ أقنعة الصّمت
وقالوا:
"آه أنثى ..
مجرّد أنثى !"



צלב השתיקה

תלו אותי
על צלב מאז
נולדתי
ואמרו : "אישה "
קבעו ידי
במסמרים
על קרש העתים
קבעו רגלי
במסמרים
על קרש המרמה
ואמרו : "אישה...אישה!"
כבסו
מחשבותיי באש לאט לאט
שתלו בשדות
מאוויי
עץ ההולך
ומתפורר
קמעא קמעא
למדו אותי את
אלפבית
הצער כל כלו
הלבישוני
בכל רעלות
השתיקה
ואמרו :
" אה...אישה !
בסך הכל אישה "



~





صرخة إعراب

إلى متى
يظلّ الإنسانُ الصادقُ
ضميرا مستترا
وتظلّ الأقزام
المشبّهة بالأفعال
تنصب وترفع
ما تشاء
متى تشاء..!!



צעקת דקדוק

עד מתי
יהיה האדם
הישר
גוף נסתר
ואילו הגמדים שדומים
לפעלים
יעלו ויורידו כל מה שהם
רוצים
מתי שהם
רוצים


~







إختنــَاق

أمْـلــكُ أمَلا
لكن
لا أملك نافذة ً
أ ُطـِلُّ منـها
عليـه



חנק

יש לי חלום
אבל אין לי
חלון
שישקיף עליו




~





حَظْرُ تَجَوُّل

تَسَلَّلْتُ بِحُرِيَّة
إِلَى مَدِينَةِ أَفْكَارِك
فَاسْتَوْقَفَنِي جُنْدِيٌّ عَابِر
عَلَى بَوَّابَةِ أَسْرَارِك
وَصَرَخَ: "هُوِيَّة "!
وَحِينَ أَدْرَكَ أَنِّي عَرَبِيَّة
صَادَرَ أَحْلاَمِي



עוצר

שוטר שהזדמן
ליד השער של
מחשבותיך
עצר אותי
בצעקה:
" תעודת זהות ..!! "
וכשנודע לו
שאני ערביה
הוא עקל את
חלומותיי




~





لصوصيّة

الحياةُ قنديلٌ
لكن :
من سرقَ زيته.. ?!



גנבה

החיים הם
מנורה
אך : מי גנב
את הזית שלה .. ?!



~





صـِرَ ا ع

يُحاصرُني الحزنُ
فأحاصرُه ُ
حتـّى آخر رَمَــق

حقــًا:
البقاءُ دومًا للأقوى



מאבק

כשהעצב
שם עלי מצור
אני שמה עליו
מצור
כפול

בעצם :
רק לחזק יש
קיום



~





صمــت

لـنصمتَ قليلا
لنـُنـْصتَ طويلا
هاهـُم:
إنَّّ
وأنّ
وليتَ
ولعلّ
يهرولون إلينـــا
ونحن
وحيدان وحيدان



שקט

בוא נשתוק
לרגע
בוא נקשיב
לרגע

הנה הם :
למה
איך
איפה
ומתי
רצים אלינו
ואילו שנינו
בודדים
ב ו ד ד י ם



~





توأم الرّوح

كأنّني
ولدتُ يوما توأما
نصفُهُ الأوّل:
" أنا "
ونصفُهُ الثّاني:
" أنت "



תאום הנפש

כמו
נולדתי בשעתו תאומים
חציו הראשון:
"אני"
וחציו השני:
"אתה"




~





أَيـْنَ المَفـَرّ ؟

أَسـْتـَقـِلُّ القـِطـَارَ
وَأُسـَافـِرُ فـِي رِحـْلـَةِ
نـَقـَاهـَةٍ مـِنْ قـَدَرِكَ
فـَأَجـِدُكَ وَقَد
شَـغـَلتَ المـَقـْعـَدَ الشـَّاغـِر
فـِي قـَلْبـِي
وَفـَي يـَدِكَ تـَذْكـَرَة
بـِاتجـَاهٍ وَاحـِد



היכן המפלט

עולה על רכבת
מפליגה במסע
החלמה מגזרת
ידך
ואז אני
מוצאת אותך
תופש את
המושב הפנוי
בתוך ליבי
ובידך כרטיס
לכיוון אחד





~






ازدواجيــّة

التجـأتُ لكفـِّكَ
عـَدوًا خلفَ
قمح ِ حـَنـَان ٍ
فاكتشفتُ أنّها
قادرة ٌ
أيضـًا على الصَّـفع



כפילות

חיפשתי מקלט
תוך כף היד
שלך
בריצה אחרי
חיטה של חיבה
וגליתי
שביכולתה
גם לתת מקות





~






الحبر أبقى

كــَفاكَ عويلا
على حلم ٍمَســْكـُوب
كـَفـْكـفْ دَمعـَكَ
واكتـُبنـي:
الحبـرُ أبقـَى
مِن الحُـــبّ



רק הדיו
יאריך ימים

תפסיק לילל
על חלום שנשפך תנגב את
דמעותיך
ותכתב אותי
הדיו יאריך
ימים
יותר מהאהבה




رسالة الى السندريلا غادة السمان





سيدتي الجميلة كما الأمل، يا أميرة مملكتها: صور شعرية
صولجانها:البهجة والوهجَ
يومًا ما تورطتُ في الكتابة لأني عشقتُ حرفك وأدمنته.
ثمّ تورطتُ بعشق ِ حرف غسان حين قرأته في "أم سعد"
،وحين عثرت على "رسائل غسان كنفاني لغادة السمان" عشقتكما كـ"كيان واحد"،
وظلت الكتابة من داخل اتون التجربة حلمي الأكبر،وظلّ عشقي لحرفك يكبر ويكبـر






أحلمُ أن تمرّي ذات صدفة من هنا، كما يمر الطلّ على العشب
،وتقرأيني،وتعلمين أن،ثمة سنونوة ، تغذت على حرفك
قبل أن تنطلق ،بجناحين من كرامة
*
غادة السمان:أحبـــــــــــــــــّك ككيان
وأحبــــــــــــــــّك كشاعرة لا ندّ لتجربتها
وكل من ستأتي من بعدك ستغزل من جمالٍ أبدعتي بحياكته
يا شهرزاد الحكايا

لكِ الحياة
ريتا




همسة عتـــاب:


وَيْحَكَ!
أَلَمْ تَدْرِ بَعْدُ أَنِّي لَسْتُ شَهْرَزَادَ
وَلاَ سَلْمَى أَوْ وَلاَّدَةَ
وَأَنَّ مَا أُكِنُّهُ لَكَ فِي الْقَلْبِ
أَرْقَى مِمَّا كَنَّهُ غَسَّانُ فِي أَوْجِ عِشْقِهِ
لِسِنْدْرِيلاَّهُ غَادَةَ؟


ثنائية "موسيقى النص، تيار الوعي" في النص الأدبي




ثنائية "موسيقى النص، تيار الوعي" في النص الأدبي
سعاد جبر

تنوعت الأشكال الأدبية، في نتاجها على الصفحات، في إرهاصات بلوغ المنجز الإبداعي في الطرح، وتواترت الكتابات الأدبية في تناول أبعاد موسيقى النص في البعد الشعري وأزمات أشكاله الأدبية في عوالم الحداثة في النص الشعري ومترتبات الجدليات النقدية الدائرة في ذلك السياق، وليس حديثي هنا في هذه الأبعاد وإشكاليات تلك الأزمات القديمة الجديدة، إنما هو في عوالم الموسيقى الداخلية في النص وأغواره العميقة في وجدان النص الأدبي في كافة اشكالة الأدبية، لاعتبارات عمومية ذلك السياق في النقد والدراسة، فهو ابعد من أن ينحصر في آفاق حيثيات شعرية بحتة وأجواء الجدليات النقدية الدائرة في ذلك الاتجاه الشعري الأحادي في التناول الأدبي كما هو دائر في الكتابات التراثية والكتابات النقدية الحديثة في ذلك المنحى الأدبي المستعر في كهفية عوالم الشعر الدفينة ولغة سجالها الممتدة إلى عوالم اللانهايات، فآن الأوان لأن تتسع أفاقة في التناول في كافة لغات الأجناس الأدبية لاعتبارات انه شأن هوية الحرف وتراقصاته المنسابة في كل جينات تخلقه في الذاكرة الأدبية في استلهمات التراث وإيحاءات الحداثة، لأنه شأن هوية في الحرف وعنوان إحساس متدفق على النص في كافة أطيافه الأدبية، وهو بعد عذب منساب تتحكم فيه منظومة مؤثرات تحمل معها علاقات تبادلية من شبكة الإيقاعات الداخلية وثمارها اليانعة في لغة شيفراتها السيكولوجية المنبعثة انساماً رائقة في النص ورسالة بوح خاصة في لغة الاتصال الرمزية المبرمحة من تراقصات الحرف في حدة سيمفويناتها الصوتية الصادحة وصفحات امواجه الهادرة في لغة الدلالة وتشكلات مركب الأخيلة الشفافة العذبة المتلاحمة مع بريق الإحساس المتدفق ويتبادلان في إطار تيار وعي الذات وتشكلات درره الدفينة في عوالم اللاشعور الدفينة في معادلة تدفق تلك الموسيقى الداخلية في أوج تماوجاتها على النص الأدبي في بنيوية تركيبة مترابطة - على نسق معادلة روبرت شولز في البنوية- تؤججها العفوية الفطرية في السبك العذب المنساب من أعماق تداخلات اللاشعور المنسابة بشيفرات فسيفسائية على النص واؤكد هنا على العفوية والفطرية المطلقة في تراقصات تلك المعادلة البنيوية في النص والتي تتحكم في مولدات تلك الموسيقى الداخلية المنبعثة من لغة الاتصال الرمزية المتآلفة فيما بينها في لغة أصوات الحروف وتداعيات تيار الوعي المنعكس عليها في لغة شيفرات اللاشعور المتولدة فيه وتماوجات الأخيلة الشفافة المنعكسة على بعد "الأنا، الأن، هناك" فترتسم بتلك الأبجديات التوليدية لحنها العذب الجياش على الصفحات. في أبعاد بنيوية متكاملة دون أن تنحصر في نبرات الصوت في لغة الجرس الموسيقي ومترتبات الوزن في الإيقاع كما هو متواتر في كتابات التراث الأدبي، إذ أن التناول البنيوي الكلي لمترتبات الإيقاع الداخلي في النص الذي يشكل سيفونيات موسيقاه الداخلية تلعب دورا كبيرا في توليدها بجمال في ظل تنفسات الحرف وتغريده في حنجرة الكلمات. بين لغة الرفض المكبوته ولغة النشوة الهائجة، اولغة الصعود المتسامي ولغة السقوط المتهاوية، او في تماوجات الروح بين هذا وذاك وكل تلك المتضادات تعبر في ثنائياتها عن لغة إيقاع داخلي واحدة في أجواء عوالم اللاشعور الدفينة، إذ أن (الرفض، القبول) او (الصعود، السقوط) كلاهما في هممات لغة الموسيقى الداخلية له نبرات تعبيرية واحدة وأن كان حدة جرسها يتفاوت بين الصعود والهبوط، ففي نص "أشعل قنديلاً وامضي" للمبدعة ...، يبرز للمتذوق برهافة مقاطع النص حدة جرس موسيقى النص وهي تتهاوى الما وعذابات، فتؤججها روح التحدي المتسامية في النص، لتنقلها من آتون الفناء إلى تساميات لغة الوجود، التي ما زالت تتناثر مقاطع نبراتها في النص في إرهاصات ميلاد الرحم من جديد، المختلطة بكدر احتمالات الفناء لامحالة.


ألقي القنديلَ في زاوية كهف الصّمت الفاضح.
أخرج إلى النور.
تتهدّجُ أنفاسي.
أتجهمُ.
أتنهدُّ.
تطاردني رائحة عفونة قذرَة.
تبللني رطوبة وحل لزج مثير للاشمئزاز.
تُراني
بدأتُ...........
اغرقُ............
؟!……………..( 1 )





وفي ظلال نص

"ساحاولك مرة اخرى"

لــ ريتا عودة يبرز للقارئ المتذوق ذلك الجنون المستعر ولغة التحدي العامرة، ويستشعر بجمالية عذبة هممات موسيقى النص في تقطعاتها الحادة وهي تعبر المسافات في لغة العشق والإصرار عبر تراكمات اللاشعور في لغة الوجود عبر مساحات الأنا الأنثوية الممتدة في اللانهايات في النص إذ تقطع مسافات الذاكرة والوجود معا في لغة اشراقات الذات القريبة البعيدة.


قد آنَ الأوانُ
أنْ ...
أحـــَاولـــَـكَ
مرّةً أخـــرَى
لأحاورَ فيـــــكَ
شهريـــاري
وقيســِي
وابنَ كنعــــــَان ِ
من الليلة ِ الألـــف
للحكايــــة
وحتــــّى
مــَطــْلــَع َ الآااااه
في أتون ِ حــِرْمـــَانــــِكَ
وحــِرمـــــَانـــــــِي ( 2 )


ومما سبق يتبين اثر ترتب إيقاعات الحروف مع لغة اللاشعور واشرعتها المبحرة في لغة التصوير الفني في توليد الموسيقى الداخلية في النص وترتب نمنماتها في اصداء إيقاعات داخلية تدور رحاها في نبرات الكلمات والمقاطع وحدة الأنعطافات في النص الأدبي.
في ظل بناء تركيبي محكم كيفما كانت الأجناس الأدبية في البث والسرد وكيفما حلقت شيفرات اللاشعور في صعودها المتسامي وكيفما تهاوت في كهفية السقوط في أثير لغة الفناء والوجود معاً.




سعاد جبر
2004-09-11

رؤية نقدية لقصة "الفستان الأحمر" للأديبة ريتا عودة






الفستان الأحمر
قصة قصيرة
ريتا عودة-الناصرة


استوقفتني إحْدَى جَاراتِنَا عَلَى بابِ الْمَنْزلِ وَهِيَ تَتَساءَلُ:"إلَى أيْنَ!"
حَدَقْتُ فِي الأفْق ِ الْبَعيدِ وَهَمَسْتُ:"لا أعْلَم!"..وَأخَذْتُ أبْتَعِدُ وَصَدَى صَوْتهَا يُلاحِقُنِي بــِإصْرَار: "فَتَاة غَريبة!"
بَدَأتُ أعْبُرُ الشَّارعَ الْفَاصِلِ كَحَدِّ السَّيْفِ بَيْنَ الحَيّ العَرَبِي الْمُهْمَل ِعَبْرَ سَنَوَاتِ الْجَفَافِ وَبَيْنَ الْحيّ الآخَر الْمَزْروع بالْجَنَةِ. خُطُوَاتِي مُتَثاقِلَة كَسْلَى. صَرَخَ أحَدُ السّائِقِين الّذي كَادَ يَدْهَسنِي بشَاحِنَتِهِ الْضَّخْمَة:
" عَمْيــاء! الضَّوءُ أحْمَر!!"
لَمْ تُثِرْ صَرْخَتُهُ انْفِعَالِي، لكنَّ قميصَهُ الَّذي دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ جُنْديَّا أثَارَ فُضُولِي، فَبَدَأَتْ تَتَرَاقَصُ فِي ذَاكِرَتِي صُوَرُ أجْسَادٍ مَبْتُورَة وَبُيُوتٍ مُهَدَّمَّة.. دُمُوعٌ.. هَلَعٌ.. دَمٌّ..صُوَرٌ تُطَالِعُنَا بِهَا النَّشَرَاتُ الإخْبَاريَّة كُلّ يَوْم بل كُلّ ثانِية حَتّى أنّها صَارَتْ جُزْءًا أساسيَّا مِنْ كُلّ نَشْرَة.
مَرَّتْ بِي شَاحِنَة مُزْدَحِمَة بالرجَال فَتَمَلَكَني هَاجِسُ عَدِّهِم. بَدَأتُ بالعَدِّ كَطفلة تَعَلَمَتْ لِتَوِّها الأرقِام الحِسَابيّة: جُنْدي..جُنْديَانِ.. ثَلاثَةُ جُنُودٍ.. أربعَة..خَمْسَة..
تَلَقَفَ أنْفِي رَائِحَةُ طَعَام مَا فَكَرْتُ باقْتِحَامِ المَكَانِ لكنّي أحْجَمْتُ حينَ تَذَكَرّتُ أنَّ مَلابِسِي الْعاديَّة لا تتنَاسَبُ وَالملابِس الْفَاخِرَة على أجساد ِهؤلاء فواصَلْتُ سَيْري، وَبَدَأتُ بقِراءَةِ الإعْلانَاتِ الْمَصْلُوبَة عَلَى أعْمِدَةِ الْكَهْرَبَاءِ:" حَافِظُوا عَلَى نَظَافَةِ الْمَدينَة. بَلَديَّة حَيفَا".
ابتسمتُ ابتسامَة ً شَاحِبَة وَتَمَنَيْتُ لَوْ ألْتَقِي ثَانِيَة بذلكَ الجندي الّذي صَرَخَ في وجهي أنَّ الضَّوءَ أحْمَرلأسْألَهُ إنْ كَانَتْ الْمَدينَة حَقًّا نَظيفَة.
تنَازَلْتُ عَنْ الْفِكْرَة سريعًا وَبَدَأتُ بالتَنْقيبِ عَنْ شَيء مـَا بِإمْكَانِهِ إشْغالِي نِصْفَ السَّاعَة الْمُتَبَقِيَّة عَلَى ابتداء مُنَاوبَتِي الْمَسَائِيَّة في مَعْمَل الْنَسِيج.

جَذَبَ انْتِبَاهِي لَوْنٌ أحْمَرٌ لِفُسْتَانٍ مَا عَلَى دُمْيَّة.
رغْمَ الْمَسَافَة بَيْنَنَا .. انهمكت ِ الْمَرْأة ُ بوَضْع ِ الثَّوبِ عَلَى جَسَدِ الْدُمْيَّة. رَكَضْتُ نَحْوَها، فَقَدْ جَعَلَ اللَّوْنُ الأحْمَرُ دَمِّي يَجْري بشَرَاسَة فِي عُرُوقِي. إنَّهُ أحْمَرٌ، لكنّه غَريبٌ. غَريبٌ جِدًّا. أرْبَكَ أفْكَاري. دَوَّخَنِي.حَدَقْتُ بهِ وَتُهْتُ. كَمْ أحْسدُ تِلْكَ الدُّمْيَّة الصَّامِتَة الّتي تَفْتَقِدُ مَشَاعِرَنَـَا الإنْسَانِيَّة إلاّ أنّهَا " تَتَمَتَع " بِمَا يَنْقُصُنْا نَحْنُ! تَمَنَيْتُ لَوْ أتمكن مِنْ وَضْع ِ الثَّوْبِ الأحْمَر عَلَى "جَسَدي أنـَا" بَدَلَ هذه الثِّيَاب البالٍيَّة الّتي فَقَدَتْ رونقها مُنْذُ زَمَن!!
دُونَمـَا تَفْكير، كأنّي أستَفيق مِنْ حُلُم ٍ، دَفَعْتُ جَسَدي دَاخِلَ الْغُرْفَة وَطَلَبْتُ مِنَ الْعَامِلَة أنْ تُنَاولَني ذلك الثَّوب الأحمر لأرتَديهِ على جَسّدي. تَفَحَصَّتْ هِيَ ثِيابِي بِنَظْرَة ٍ خَاطِفَة ثُمَّ أعْلَنَتْ بِبُرُود ٍ وَبِلَهْجَة عَرَبِيَّة ثَقيلَة:" دَه غَالـِي!!!"
شَعَرْتُ أنَّ جُدْرَانَ الْغُرْفَة تَدُورُ مِنْ حَوْلِي فَسَألْتُهَا بـِلَهْفَة:"كَمْ..!".
هَمَسَتْ ببرود:"ألف.."
ألف...!!!
دَوَّى هذا الرَّقْمُ داخِلَ رَأسِي فَصَارَ رَأسِي كَخَلِيَّة نَحْل ٍمُضْطَربَة. يَجِب أن أشتَري هذا الثَّوب. يَجِبْ وَلَوْ مَرَّة أنْ أحصل على شئ أتَمَنَاه! سأدفع لَهَا مَا يُعَادِلُ نِصْفَ راتِبي ، بَلْ أكْثّر!. لَيْتَنِي ما كنتُ عَامِلَة في مَصْنَع!! لو كنتُ مُتَعَلِمَة كَغَيْري مِنَ الْفَتَيَات لتَقَاضَيْتُ مَبْلَغًا لِتَسْديد ِ احْتِيَاجَاتِي أنـَا وَأهْلي وأخْوَتِي الثمانيَّة الّذينَ يَنْتَظِرُونَ رَاتِبي كُلَّ شَهْر بفَارغ ِ الأمَلْ..! حَسَنًا. سأطْلب من " يوسِي" أنْ يُرَتّب لِي ساعات عمل ليليّة لتحسين راتبي في الأشهر القادمة.
فَتَحْتُ الحَقيبَة وَتَنَاوَلْتُ الْمَبْلَغَ، ثُمَّ بَسَطْتُ ذراعي وعلى راحةِ يَدي ألفُ شَاقِل.
ابتَسَمَتْ المَرْأة بإعياء وَلَمْ تَتَنَاوَلْ الْمَبْلَغَ. ابْتِسَامَتَهَا الصَّفراء شّلَّتْ حَواسي. بَعْثَرَتْ هُدوئِي.
قَالَتْ:"ألف دولار"..
وَاسْتَدَارَتْ لِتُحَييّ امرأة تَلّفُ جَسَدَهَا بالفِرَاءِ دَخَلَتْ الغُرْفَة تِلْكَ اللّحْظَة كَمَا تَدْخُلُ السَّمَكَةُ الْبَحْرَ.
حَمْلَقْتُ فِي كُلّ مَا حَوْلِي..
تَرَاخَتْ شَفَتَيَّ...
خَرَجْتُ مِنَ الْغُرْفَة بِخُطُوات ٍ مُخَدَّرَّة.
وَلا أدري لمَ فِي تِلْكَ اللَّحْظَة بِالذات... تَمَلَكَتْنـِي رَغْبَةٌ جامحة فِي أنْ: "أبــــْصِـــقْ..!! "

1982





مقدمه


الأدب بمنظوري الشخصي هو ترجمة للذات الإنسانية. أعدها كقاموس لهذه الذات. بها يُترجم أفراح.. أتراح.. آمال.. آلام ..مكنونات و مكونات هذه الذات.
يُكتب الادب للعامة حاملا و مترجما لهمومهم و امالهم و غاياتهم و تطلعاتهم، ويحاول الاديب ايصال فكرته اليهم والذي هو بالاصل فكرهم هم. و منتهى غايته هو كتابة نص و مادة انسانية تصل بقوة و صدق الى العامة، و تجد صداها بقوة النص من الناحية الجمالية و الصيغة المتقنة لدى الادباء الاخرين الذين قد يمتازون عن بعض العامة هو حساسيتهم لتذوق النص من الناحية الجمالية.
لذلك على الصعيد الشخصي احب و اذوب في قراءة الآداب العربية من شعر و رواية و قصة اكثر بكثير من قراءتي للاداب العالمية، فأنا أجد ان الترجمة تقتل روح النص، اشعر بانها توصل فكرته و تقتل روحه.
اعتذر اطلت في الكلام و لم أبدا بالرائعة ..الفستان الاحمر...
و التي سوف اسمح لنفسي بتناولها من عدة جهات حسب رؤيتي المتواضعة لها.







تناول الناحية الانسانية في القصة


فتاتنا فتاة فلسطينية بسيطة ذات تعليم متوسط، إلا ان هذا لا يشكل عائقا بالنسبة لها في متابعة اخبار وطنها، كيف لا هي تعيش هذه الطروف إلا ان متابعتها للاخبار اصبحت روتينية بحكم المحيط الذي تحياه و هذا جلي وواضح من خلال إشارة الكاتبة : "النَّشَرَاتُ الإخْبَاريــــَّة كُلّ يَوْم..كُلّ ثانِيــــَّة.. حَتّى أنّهــا صَارَتْ جُزْءًا أساسيَّا مِنْ كُلّ نَشْرَة." إلا انها ايضا برغم المتابعة مرهقة من الداخل تبحث عن شيء و هذا جلي أيضا بتحديقها بالافق البعيد. ارهاقها يجعلها غير مبالية بنفسها فهي لم تعبأ حين كادت الشاحنة ان تدهسها. الا ان هذه الروح المثقلة استيقظت حين علمت بانه جندي فتذكرت مالم تنسى و هي الاشلاء التي تشاهدها يوميا و الدم الاحمر الذي يتطاير هنا و هناك.
هي من الحي الفقير لذلك حين استنشقت رائحة طعامهم همت بالدخول لولا تذكرت ملابسها التي لا تليق بسكان ذلك الحي. و الذي يسكنه المحتل و الذي يفصله عن حيها فقط شارع!!! شارع بين الارض القاحلة و الارض المزروعة بالجنة نفسها!!
لي تعقيب واحد هنا بانني لم افهم المراد الحقيقي من موضوع السير و قراءة "حافظوا على نظافة المدينة.بلدية حيفا"
السبب هنا هو ربما كوني ربما خارج البلاد و لا اعرف حقيقة الساكنين لانها ان كانت للمحتل فهي بالتاكيد نظيفة لانك ذكرت بانها مزروعة بالجنة و ان كانت لاصحاب الارض فهي ارض قاحلة و لا يمكن للمحتل ان يطلب منهم المحافظة عليها و هم من يسعون لدمارها. تمنيت هنا لو أن الكاتبة قد أوضحت طبيعة الوضع الجغرافي.
حين يصل بالانسان ان يحسد دمية!! فهذا يعني انه يحيى على قارعة المكان و الزمان و انهما شبه متنكران له. و المسكينة تمنت ان تكون مكان دمية لكي يكون هذا الثوب على جسدها هي.
يوجد هنا سؤال ضمني و هو لماذا هي وانا لا ؟! و كأن بها تقول "هي دمية لم تحيا مثلي لم تعاني مثلي لا تفهم هذا الفستان كما انا وليست متلهفة اليه".
هنا أشد يدي على يد الكاتبة و اقول لها :
يا رائعة جعلتني امقت هذا اللون حين كان في البداية احد اسباب موت بطلتك أمام اشارة المرور و بعدها مقته لانه لون دم شعبي المراق....
و لكنك جعلتني بلحظة فقط اتوق لهذا اللون و اتمنى فستانا بلونه. نقلتني بخفة و بمهاره من كره لون حد المقت الى محبته حد الدهشة و التمني!!!
و ان تجد البطلة نفسها داخل المحل وتطلب من العاملة ان تناولها الفستان حتى بدون السؤال عن سعره ,هذا عنى لي الاصرار و الرفض بان تكون الدمية افضل منها، و لكنها بدات تستيقظ من حلمها حين علمت بانه غال،"ده غالي".....
لكنه هو الامل الذي يدفعنا دوما ان نكمل المسير في طريق بدت صعوبته. و الذي دفعها ان تسال "بكم" و هو نفسه الرفض و الامل الذي دفعها ان تتناول ما يعادل اكثر من نصف راتبها ثمن له...
لي تعقيب هنا على نقطة كم تمنيت عدم وجودها و هي الحسرة على عدم اكمال التعليم. فهنا شعرت بان عدم التعليم هو سبب العوز او بالاحرى قلة اليد، كنت اتمناها ان تترسخ في ذهن القارئ و المتلقي بان المحتل هو من يسرق الحلم من جميع الطبقات المتعلم و غيره. لانه في الحقيقة هكذا، فكم من المتعلمين و حملة الشهادات قابعين في بيوتهم ... بدون اقل فرصة عمل!!!
كم هي حنونة بطلتنا من اجل ان لا تمنع اخوتها من املهم برابتها بعد شرائها الفستان سوف تسعى للعمل ساعات اضافية!!
و لكن يا للحزن حين تمتد يدها للاف شيكل فاذا بالفستان الف دولار... و يا للقوة الناتجة من الضعف حين تكون ردة الفعل هي الرغبة بالبصق بدلا عن البكاء......








ب) مفردات ...

و الان اسمح لنفسي ان آتي على ذكر مفردات ذكرتها القاصة الرائعة ريتا عودة في نصها كانت بحق كالمقصلة و الخنجر في الخاصرة، خاصرة اي متذوق و شاعر بهموم هذا الوطن. 1.حَدَقْتُ فِي الأفْق ِ الْبَعيدِ: من يحدق في الافق؟ من يحدق في اللامكان سوى الباحث عن شي للتغيير؟
2. أعْبُرُ الشَّارعَ الْفَاصِلِ كَحَدِّ السَّيْفِبَيْنَ الحَيّ العَرَبِي الْمُهْمَل ِ عَبْرَ سَنَوَاتِ الْجَفَافِ وَبَيْنَ الْحيّ الآخَر الْمَزْروع بالْجَنَةِ نَفْسهَا: جعلتني اشعر بانني على حافة شارع ما قبله ارض خراب و ما بعده جنة!! حد فاصل، كما في حكايات الاطفال التي كنا نسمعها. و هو الشارع نفسه الذي يمنع المطر عن الحي الفقير وهو نفسه زارع الجنة في الحي الاخر.
3. فَقَدْ جَعَلَ اللَّوْنُ الأحْمَرُ دَمِّي يَجْري بشَرَاسَة فِي عُرُوقِي. إنَّهُ أحْمَرٌ.. ولكنّه غَريبٌ.. غَريبٌ جِدًّا. أرْبَكَ أفْكَاري.. دَوَّخَنِِي.. حَدَقْتُ بــِهِ وَتُهْتُ: يا لروعة الوصف الذي جعلني ابحث عن اي شيء امامي احمر لكي اتاكد منه.... لابحث عن شعور مثل البطلة....
4. مِنَ الْعَامِلَة أنْ تُنـَاولَني ذلك الثَّوب الأحمر لأرتَديهِ على جَسّدي: هنا مناولة يعني يقين الحصول. هنا كانت قاصمة لظهر القارئ حين ينتقل اليقين الى مجرد حلم بعيد. يا للالم الذي يشعر به... فهي لم تسال عن سعره بل ارادته لكي ترتديه!!!
5. فَصَارَ رَأسِي كَخَلِيَّة نَحْل ٍ: تشبيه جميل
6. ( يَجِبْ وَلَوْ مَرَّة أنْ أشْتَري شَيئًا أتَمَنَاه!). اتستميحك عذرا فانها هنا عاجزة عن التعليق. لا لشيء سوى اننا نشتري ما نشتهي و غيرنا يتمناه مرة......
7. مَبْلَغًا لِتَسْديد ِ احْتِيَاجَاتِي أنـــــَا وَأهْلــــــِي وأخْوَتــــــِي الثمانيَّة الّذينَ يَنْتَظِرُونَ رَاتــــِبــــــِي كُلَّ شَهْر بــــِفَارغ ِ الأمَلْ. لكنْ ..! : فارغ الامل كم كانت صعبة, لان فارغ الصبر يعني ان انال مرادي عند نهاية الشهر اما فارغ الامل ان اصبر و انا غير متاكدة من تحقيقه....
8. الحَقيبَة وَتَنَاوَلْتُ الْمَبْلَغَ.. ثُمَّ بَسَطْتُ ذراعي وعلى راحةِ يَدي .. ألفُ شَاقِل.: هل بسط الذراع عنا هنا كان القوة بانها ظنت بانها حصلت على ما تريد. ام لان فكرة شراء ما تريد ولو لمرة واحدة هو الذي سيطر عليها بدلا من اخوتها الثمانية؟!
9. وَلا أدري لِماذا ...فـــِي تِلْكَ اللَّحْظَـــة بــِالذات... تَمَلَكَتْنــــِي رَغْبــــَةٌ حــــَادَة فـــــِي أنْ : أبــــْصِـــقْ!! رغبة البصق هنا قوية و تحمل رسالة... رسالة الرفض و القرف لا الضعف الذي يولد الدمعة بل هنا البصق رفض و قوة




بسمة فتحي
2002


قراءة نقدية لقصة "الأحلام الصغيرة" للأديبة ريتا عودة

الأحلام الصغيرة




الفكرة والحدث :
كثير من البشر يعتقدون أن عائلتهم جزء من أجزاء حياتهم حتى تتحول هذه الجزئيةلأن تصبح مثل أشياء المنزل وحاجياته كالزوج في هذه القصة التي اكتفى بوجودإنسانة اسمها زوجة في البيت دونما سؤال منه عن أحوالها وعن رغباتها ومدىسعادتها أو تعاستها وهي تعيش في بيته فاخترعت الزوجة قصة من نسج خيالها لتصلمعه إلى غرضها الحقيقي الذي ما فهمه ولن يفهمه مهما تكلمت عنه . .. فكرة القصة جيدة جدا وهي حادثة كثيرا في مجتمعات كثيرة وصاحب هذه المأساة رجل يملأ رأسه مشاغل العمل التي لا تنتهي أبدا وعلى الزوجة في هذه الحال أن تسلم أمرها لخالقها وتستسلم لوضع حياتها حتى وإن دفعها ذلك إلى أن تنسى أنها إنسانة تحتاج إلى قلب يسمع ومشاعر تحس بها حتى تتحول إلى قطعة أثرية كما يريدها ذاك الزوج . . . ولكن بطلتنا هنا لم تكن ضعيفة الشخصية أو لنقل إنها كانت متمردة على قدرها الذي أراده لها زوجها فلم ترضخ لواقعها المرير وإنما حاربت لتبقى إنسانة فاختلقت القصص ونسجت الأحاديث لتعيد لنفسها كيانها الممزق في هذه الحياة حتى فجرت قنبلة في زمن السكون والهدوء وأطلقت عاصفة لتهز جدران المنزل من هولها ونطقت بما لم تعد تطيق به ذرعا ومن هنا يبدأ الحدث فبعد تفكير طويل أعلنت الحرب وأعدت عدتها فصمدت أمام جبروته ولم يصب مشاعرها الخور أو الخوف حتى تحقق هدفها فصارحته بشيء يهز رجولته ويحطم كبرياءه حتى أصبح كالمجنون يتحرك بخطى لا يعرف إلى أين ستصل به بعد أن أخبرته بحبها لشخص آخر كل ما تحتاجه منه هو العاطفة الصادقة والإحساس بمشاعرها واعتبارها إنسانا له شخصيته وقيمته الجوهرية في الدنيا . . . ازداد الحدث صراعا بصمتها الذي كاد أن يقتله فقلبه كمراجل تغلي وهي كالجدار الذي لا يحرك ساكنا حتى وصلت به إلى الأزمة الحقيقية التي تعيشها لتعلن له وبكل شجاعة أنها ما خنعت لحياتها هذه مهما كانت تحمل له من المشاعر والأحاسيس . . . والحدث جاء من خلال الحوار بين الزوج والزوجة حتى وصلنا إلى الصراع الحقيقي الذي عاشته الزوجة مع هذا الرجل ومن هنا نتلمس إبداع الكابتة بأن رسمت لنا صراعا حقيقيا من خلال حوار يبدأ بشكل يسير ثم يتدرج شيئا فشيئا حتى يصل بنا إلى أزمة القصة كما لا ننسى التشويق الحاصل في حوارها ورغبتنا بعد كل سطر بأن نكمل سلسة القصة إلى نهايتها فالنفوس تتوق إلى معرفة حل الأزمة وإن كانت متوقعة . .


بناء القصة ويتضمن :

العقدة والحل . . .من كلامنا السابق استطعنا أن نصل إلى أزمة القصة ألا وهي : وجود شخص في حياة هذه الزوجة أحبها فبادلته المشاعر الصادقة بسبب إحساسه بها وتقديره لها وهذا كاف لأن يهز الرجل مهما كانت قوته ومهما كان جبروته وقد صورت الكاتبة الأزمة فأبدعت وهي تصف وقع الخبر عليه ؛ فنجدها تقول : \" قفزَ عن السرير كطلقةِ رصاصةٍ تنفلتُ من مسدس.لم يُصَدِّقْ ما قالته.لم يشّك في حبِّها له ولو مرّة!! انطلقَ نحوها كالسهم.أخذ يهزُّها من كتفيها النحيلين لكنّ صوتها ظلّ يكرر بإعياء:\"أ ُحِبُّ رجلا آخَر\". حاولتْ الإفلات من قبضةِ يديْهِ لكنَّه اعتقلَ خطواتــِها:\"مَنْ هُوَ؟!!!! قولي!!!\" \" وقولها : \" أخذَ يَتحَرَكُ داخل الغرفة كَكُرَةٍ مطَّاطِيَّة دونَمَا هَدَفٍ \" \"\"خائنَة..خائنَة..\" ظلَّ يكرر كأنه كُرَةٌ تسقطُ من ارتفاع ٍ شاهِق.اتجه نحو الباب. عاد إلى السرير.. اتجه يمينا..اتجه يسارا.أخفى وجهه بين أحضانِ يديه..وسأل:\" أتحبينه! أم تحتاجينَ نقودًا.!!\"
وهكذا نجد إبداع الكاتبة الحقيقي في وصفها لحال الزوج بعد أن تفجرت القنبلةفي وجهه فكأنه الحائر بل هو التائه الذي ضيع شيئا ثمينا لم يكن يحسب أن له قدرا. وقد أبدعت قبل ذلك بتصوير الصراع النفسي الذي اكتنف مشاعر الزوجة وأسر نفسهاسنة كاملة فقالت عن إحساس الزوجة الخانق : \" اتجهتْ هي نحوَ النافذة تبحثُ عن شُعَاع ِ شَمْسْ.لَمَحَتْ صورةَ زفافِـهـما مصلوبة على الحائط منذُ سنة. شعَرَتْ كأنّ الصورة تستنجد بها لتحررها من سجنها المؤبد. \" فرأت إحساسها مرسوما على خطوط هذه الصورة التي شعرت بأنها تستنجد بها لتفك قيدها وتطلق سبيلها وكأن مشاعرها انتقلت أمامها على ظلال الصورة . . . وتستمر في رسم الصراع حتى بدا الزوج وكأنه يفكر بجدية في ما قالته حتى رأى المقعد المتحرك وكأنه جامد ولكنه ما زال يكابر لم يبرر موقفه ولم يسألها عن صمتها المطبق القديم وإنما عاد ليسألها عن هذا الرجل الذي خانته معه بخيالها بعد أن رأت الاحمرار يكتسح غابات عينيه فخشيت عليه من الانهيار فجاء حل الصراع الذي ما تحمله الرجل في لحظة واحدة أما هي فقد تحملته شهورا طويلة فقالت : أنا لا أحبُّ أحدا. . لكنّ الكآبة تنهشُ دمي ولحمي وكلّ وجودي. أريدك أن تعيد التفكير في حياتنا معا. \" ولكن ما وقع هذه القنبلة الجديدة عليه هل ستفجر براكين غضبه ؟ بل إنها غيرت حتى نظرته للأشياء التي حولها فما كان يراه جامدا أصبح الآن متحركا وكأن الحياة دبت فيه من جديد حتى رأى المقعد يتحرك وختمت قصتها بأروع ما يكون حيث قالت \" تراخى جسده فوق المقعد المتحرك. بدأ المقعد يهتزُّ فجأة* أدْرَكَ* أنَّ المقعد يتحرك.قبل لحظات كان جامدًا كصندوق مغلق. . كتمثالٍ فرعونيّ في متحف. ضحكَ . ضَحِكَ. صارتْ ضحكته زَخَّةُ مطر ٍ مفاجئ في صيفٍ شديدِ الحَرّ. أخذَ يضحكُ و يسْعُلُ.. وبعدَ دقائق هَتَفَ كطفل ٍ يُجَرِبُ أولَى خطواته في المشي \" المقعد المتحرك...أنا....أنا المَقْعَدْ\".\" وكأنه يرى الكرسي مثله تماما فكان وقع خيانتها عليه كوقع السيف على عنقه فأصبح جامدا متحجرا وبعد أن اعترفت بأن ما كان من قولها ما هو إلا اختلاق شعر بروح الحياة تسري في جسده من جديد كالكرسي رآه للوهلة الأولى صامدا جامدا ثم بعد تغير الحال بدأ يتحرك وعاد إلى سابق عهده من جديد.


الشخوص :

عادة ما تنقسم القصة إلى أنواع من حيث الحدث والشخوص وهذه القصة جاء حدثها من خلال حوار الشخصيات بدءا من الحدث اليسير وصولا إلى الصراع وفي هذا النوع من القصص لا نجد رسما للشخوص مطلقا لا من الناحية الداخلية \" النفسية \" ولا حتى الظاهرية \" الشكلية والثقافية \" ولا يعد ذلك عيبا في بناء القصة وإنما هو من متطلبات الحكاية الواردة وإن كنا نستطيع رسم حدود للشخصية من الناحية النفسية خاصة لأن الصراع الذي يكتنف القصة يجعلنا نعرف ما طبيعة نفس الزوج وكذلك الزوجة .


الزوجة :

يبدو أنها تحمل في طياتها نفسا بشرية متوهجة الحساسية مرهفة الشعور ومع ذلك فهي قوية نوعا ما فصبرها على حال كهذه لمدة سنة يعني أنها كانت تتأمل تغيرا في مسيرة حياتها حتى ضاقت ذرعا بحالها فدفعتها نفسيتها القوية إلى تغيير درها الذي حل بها وهذا يؤكد أنها تحمل نفسا أبية ترفض الظلم ولا تقبل بالهامشية .


الزوج :

ربما كان من النوع الأناني الذي يريد كل شيء دون أن يعطي شيئا ولكنه اصطدم بما فعلت الزوجة فكأنه أفاق من غفلة قضى بها السنين الطويلة ولكن لا أدري إن كانت هذه الصدمة ستغير واقعه فعلا وتجعله يطور من نفسه أولا ؟ ! ولكن ما ندركه حقيقة أنه انفعل لقول الزوجة وبما أنه انفعل أو اصطدم فإن ذلك يثبت أن في روحه بقية من الحياة يستطيع من خلالها أن يسعد من حوله .


اللغة :

كم تجتاحني نفسي للحديث عن لغة الكاتبة المبدعة ؛ فكم أتحفتني بجرة قلمها من خلال استخدامها لعبارات غاية في الروعة لا لأنها أتت بهما من هامات الخيال أو ساحات الإبداع ! بل لأنها أتت بها مناسبة لمواقعها فكل لفظة عبرت عن الموقف الحقيقي تعبيرا دقيقا إضافة إلى أسلوبها المشرق الذي غلف عبارتها . . فعبرت عن تحجر مشاعره بالمقعد الجامد وعن إحساسها الأليم بالصورة المصلوبة وبحثها عن شعاع شمس كما عبرت عن صدمته بقولها في بادئ القصة بأنه القط الذي يرقب العصفور والكرة المطاطية والكرة الساقطة من أعلى إلى أسفل وأنه كطلقة الرصاص التي أفلتت من مسدس فضلت طريقها وكالسهم الذي انطلق نحو هدفه وربما استخدامه لطلقة الرصاص والسهم نابع من بيئتها ووطنها الذي تحتاج فيه إلى أسلحة كهذه ولكننا لا نكاد نحصل عليها .


تغريد أبو دياب
نوفمبر 2002



أحلامٌ صغيرة
ريتا عودة


غطى أ ُذُنَيْهِ بكلتا يديْهِ لكنَّ صوتها ظَلَّ يلاحقه كَضَرْبَةِ بَرْقِ: "أ ُحِبُّ رجلا آخر". أخذتْ تراقبُ حركاتِهِ كقطّة تتربَّصُ بعصفور صغير. ثمّ، واصلتْ طَعْنَهُ بكلماتها الحَادّة: "حاول أن تفهم!".
قفزَ عن السرير كطلقةِ رصاصةٍ تنفلتُ من مسدس. لم يُصَدِّقْ ما قالته. لم يشّك في حبِّها له ولو مرّة.! انطلقَ نحوها كالسهم. أخذ يهزُّها من كتفيها النحيلين لكنّ صوتها ظلّ يكرر بإعياء: "أ ُحِبُّ رجلا آخَر". حاولتْ الافلاتَ من قبضتيّ ِ يديْهِ لكنَّه اعتقلَ خطواتِها: "مَنْ هُوَ؟! قولي"
-لا أحد..
* ماذا؟!
- لا أحد..
* لا تكذبي. قولي فورا. مَنْ هُو..َ!؟
شعرتْ بالرهبة. تمتمت: "قلت لكَ لا أحد، لا أحد..".
عاد يهزُّها مِنْ كتفيها. صارَ قطّا مذعورًا وهو يصرخ:"كذابة..كذابة..". أخذَ يَتحَرَكُ داخل الغرفة كَكُرَةٍ مطَّاطِيَّة دونَمَا هَدَف. اتجهتْ نحوَ النافذة تبحثُ عن شُعَاع ِ شَمْسْ. لَمَحَتْ صورةَ زفافِهما مصلوبة على الحائط منذُ سنة. شعَرَتْ كأنّ الصورة تستنجد بها لتحررها من سجنها المؤبد.
عادَ صوتُهُ كالرعد المفاجىء: "خائنة..خائنة...".
كقاض في محكمةٍ بعدَ عناء يوم عمل طو يل همَسَتْ بإعْيَاء:
- إنْ كُنْتُ أنا خائنة فأنْتَ مَنْ دفعَني لذلك!! أنتَ السبَبْ.
* خائنَة.. خائنَة..
ظلَّ يكرر كأنه كُرَةٌ تسقطُ من إرتفاع ٍ شاهِق. اتجه نحو الباب. عاد إلى السرير.. اتجه يمينا..اتجه يسارا. أخفى وجهه بين أحضانِ يديهوسأل:
* أتحبينه! أم تحتاجينَ نقودًا.!
- ما أحتاجه اثمن بكثير من النقود
* ماذا..!؟
- أحْتَاجُ عاطفة صادقة. أحتاج رجلا يحترمني ويفهمني لا رجلا يمتلكني. أنتَ تتعاملُ معي كما تتعامل مع "أشياء" البيت. كأداة لا ككائن بشري. وأنا أحتاجُ رجلا يساندني وأسانده. لا يغيب عنّي ساعات وساعات سعيا وراء المادة. لا أراهُ إلاّ نادرا. لا أحتاج صورة على حائط بل أحتاج رفيق طريق. لا مُعيل بل شريكَ حياة لا سَيِّد بل.....
* كفى..! كفى أوهام..! أمْقُتُ هذه الرومانسيّة الفارغة.
- دائما تقولُ أنّني رومانسية وأنك تكره رومانسيتي. أنا انسانة.. أنا انسانة..(رددت بارهاق وبصوت متقطع).. وهذه م ش ا ع ري ..
**
تراخى جسده. نظر نحوها دون أن يراها. بدا كأنّه يستعرض في خياله أوراق حياته معها. أنّه يمقتْ رومانسيتها لأنها تجعلها في نظره غير واقعيّة، مجرد مراهقة. لكن يبدو أنَّ مشاعره المتجمدة جرحتْ أحاسيسها. إنّه مشغول عنها بشكل متواصل بمشاريعه وحساباته البنكيّة والأوراق الماليّة والزبائن وأحلامه الماديّة التي لا تنضبَ أبدًا والتي تستنفذ كل وقته ومشاعره وتعطيه الرضا الذاتي والاكتفاء حتّى أنّه ينسى أحيانا أنّه مرتبط بعائلة. وهو يشعر نفسه كصندوق مغلق عاطفيّا. يخجل أن يُعَبِّر لها عن مشاعره. أليس الرّجل الذّي يعبر عن مشاعره يعتبره المجتمع ضعيف الشخصيّة!! فكيف يمحو الآن رواسب سنوات!!
وقف قرب المقعد المتحرك. بدا له أنّ المقعدَ جامدٌ في مكانه بشكل مرعب. أَقْلَعَ صوتُهُ عن حنجرته بإعياء وقد عاد يتمتم: "من هو..!!". ناداهُ حنينُ صوتها لكنّه ظلّ يتمتم: من هو من هو... !
اكتسح الجراد بساتينه. لم تقوى على رؤيته ينهار أمامها. أرادت أن تكشف له كلّ أوراقها. هتفتْ كلبؤةٍ تصطادها شبكة:
- لم تُعْطِني ولو مرّة فرصة التحدث معك. إعتدتَ أن تقاطعني بطعنة "خيال مجرد خيال" (راقبتْ بوصلة عينيه وأكملت) فاضطررتُ إلى إيجاد طريقة أجبِرُكَ فيها على الإصغاء إليّ. ليس هنالك رجل آخر لكنّ الكآبة تنهشُ كياني. أسألك أن تعيد التفكير في حياتنا معا.
***
تراخى جسده فوق المقعد المتحرك. بدأ المقعد يهتزُّ. فجاة أدْرَكَ أنَّ المقعد يتحرك. قبل لحظات كان جامدًا كصندوق مغلق. كتمثالٍ فرعونيّ في متحف. ضحكَ. ضَحِكَ. صارتْ ضحكته زَخَّةُ مطر ٍ مُفاجِىء في صيفٍ شديدِ الحَرّ. أخذَ يسْعُلُ وبعدَ دقائق هَتَفَ كطفل يُجَرِبُ أولَى خطواته في المشي : " المقعد المتحرك..! المقعد المتحرك...أنـا ".

1982

قراءة نقدية لقصة "الضوء الأحمر" للأديبة ريتا عودة



الضوء الأحمر

أبدعت يا ريتا بالتعبير عن حالة شعب كامل وجيل بكل أفراده ؛ فكم هي مهمة تلك القضية التي أثرتها في قصتك " الضوء الأحمر " وكم عانينا منها ولا يزال يعاني منها من له حظ عاثر وأماني متفتقة لا تجد لأعقاب صوتها صدى في دنيا الوجود . . قضية جيل كامل لا من الشباب فقط بل من الشيوخ والنساء وحتى الأطفال يرون مآسي أهلهم فيتيقنون من أنهم سيعيشون المأساة نفسها وسيكابدون العناء ذاته في مستقبل أيامهم إن طال أو قصر . . . .
أسلوبك جميل ولغتك راقية وحوارك كان جيدا في القصة حيث أنه لم يكن طويلا فمعروف أن الحوار في القصة ينبغي ألا يزيد على ثلثها وقد استخدمت أسلوب السرد الذاتي فجعلت أحداث القصة تروى على لسان بطلها . . .
البطل كان تلك الفتاة البائسة التي ما هنئ عيشها وهي تبحث عن مجال شريف تأكل منه لقمتها بعرقها فما وجدت حتى أصبحت خطاها متعثرة وأقدامها واهنة ولكنها لا تزال مصرة وكم هي رائعة النهاية عندما أعلنت فيها بطلتنا التمرد عن كل القوانين وأسمعت الدنيا كلها بخطا ثابتة أنها لا تزال تملك شخصية تستطيع التمييز بين ما تريد وما لا تريد من خلالها ولها حرية الاختيار حتى وإن كانت حبيسة بين قوانين البشر ومقيدة أمام رجال الشرطة لكنها أثبتت وبكل إبداع أنها قادرة ولو حتى على الصراخ !! الذي كان وسيلتها الوحيدة لإثبات شخصيتها المتمردة أمام القدر ؛فما أروع قولها : " ..أخـَذْتُ أجـْتاز الشـّارع خُـطْـوَةً..خُطْــوَة.قَـوانـيـنُهُ لا تُـعْـجِبـُني ! لِيُسَجّل لي..غَرَامًة أُخـرى! لــــيُســــَجِلّ...اسـمي وعُـنْوَانـِي..وَرَقـَم هُويَتي.ليسُجل أنّـي امْرَأة عَرَبيّة ثَـائِرَةٌ عَلَى ظِلـــــّي...عَلَى الأقَلّ أكونُ قَد تمكنتُ منَ التعبير عنْ مَوقِفِي أنـــَا..وَلَو مـَرَّة..وَلَو مُــرّة..أخَذَ صَوْتُهُ يَصْرُخُ وَ...خُطُوَاتـِي تُعْلِـنَ عَنْ ثَوْرَتَهَا عَلى قُيود قَوانينه :
( ممنوع اجتياز الشّارع والضوء أحمر..!!!)
ربما نقص قصتك الوصف الظاهري والباطني لشخوص القصة وأهمها شخصية البطلة مع أننا قد نحاول رسم وصف باطني لهذه البطلة من خلال ما رأينا من طريقة تصرفها أمام كل عقبة أو أمام العقبة الأساس التي وقعت بها ألا وهي مشكلة الملل :
فيبدو أن هذه الإنسانة تحوي بداخلها إنسانا لا يكف عن الصراخ وعن إثارتها لفعل شيء جديد في حياتها ومفيد فهي طامحة لأن تساعد نفسها وتحمي نفسها من ألم قادم وجوع سيأكل الأخضر واليابس وهذا يؤكد أنها تملك عقلا واعيا جعلها تستجمع قواها في كل مرة بالرغم من معرفتها لما سيواجهها في طريقها من عقبات أبرزها صافرة الشرطي ومنعه لها من المرور واجتياز الشارع وتغريمها بغرامات كثيرة ، ولكنها سارت سيرا حثيثا لتصل إلى مبتغاها فكأنها تقول للشرطي : إن الملل الذي قابلته علمني ألا أمل من شيء أطمح إلى تحقيقه مهما واجهتني مشاكل وصعوبات! استخدمت الكاتبة أسلوبا يمتاز بعباراته الشفافة فهرعت إلى تشبيهات رائعة وصفت الحال وصفا بديعا مما ساعدها على إخراج قصتها بهذا الشكل الأنيق ؛ من العبارات التي جعلتني أسافر معها وأشعر برونقها قولها :
هَتَفْتُ وَأنــــا أخْفِي ابْتِسَامَةَ النّصْر خَلْفَ ضَبـــَابِ شَفَتَـــــيَّ ..
اقْتَنَصَتْ الْفَرْحَةُ غَابَاتِ أفْكَاري . . . . . .
. قَلَق.. عَصَبِيّة.. إرْهَاق.. يَأكُلُ وَقْتَهُ بَلْ وَقـــْتَ جَمِيع جَميع شَبَابنــــَا. لماذا.. تَسَاءَلْتُ.. وَأنـــَا أخْنِقَ غَصَّةَ ألَم دَاخِلَ حَلْقِي.. ألأنَّ أحْلامَهُم مَكْبُوتَة!
وهي هنا توضح قضيتها الكبرى والأصلية من قصتها فكأنها تومئ وترمز إلى قصتها الأساس بالحديث عن الملل الذي أصاب جوارحها وجعلها غير قادرة على إكمال مسيرة حياتها ؛ فلم يكن هذا هدفها وإنما استخدمت نفسها أو " البطلة " لتصل معها إلى المشكلة الأساس وهي مشكلة الجيل وأحلامه المكبوتة ويديه المكبلتين قدميه المقيدتين فلا يستطيع حراكا ولا حتى تفكيرا .
ووجد لديها خطأ نحوي واحد هذا ما وقعت عليه العين وقد أكون أغفلت سواه هو :
" لِيُسافِرُوا الِى مَنَاطِقَ عَمَل مُجَاورَة.. فَيَجدُون أنْفُسَــــهُم مَطْرودينَ مِنْ أعمَالِهـــِم بَعْدَ ضَيَاع ِ شَبـــَابِهِم "
الخطأ في : " فيجدون " وتصويبها : " فيجدوا " .
ربما خلت القصة من حل لهذه العقدة العصيبة ولكن لا يعد هذا عيبا في بناء القصة وذلك لأن هذه مشكلة جيل كامل ومجتمع بكل أفراده ولو اتفق الجيل بكامله على إيجاد حل لهذه المشكلة لما استطاعوا فكيف ستأتي الكاتبة بحل يفل قوة هذه الحال التي يعيشها جيل الشباب فالحل ليس بيديها ولا بيدي هؤلاء الشباب وإنما هذه قضية دولة تحتاج في حلها إلى أهل السلطة والحكم ، ولكن الجميل لدى كاتبتنا المبدعة أنها لم تستسلم لوضع هذه الأزمة الصعبة فأتت بحل وإن لم يكن حلا حقيقيا للأزمة ولكنه على أقل تقدير حل لمأساتها وقد تمثل هذا الحل في النهاية عندما تمردت على قوانين الشرطي وكأنها تتمرد على قوانين البشر كلهم مهما علا شأنهم وهي بذلك تعلن لنا عن عدم استسلامها لشيء لا يناسب حالها مما يؤكد قوة شخصية هذا الجيل وقدرته على خلق شيء من لا شيء ولكن أين الفرصة التي تُهيأ لهم ؟!


تغريد أبو دياب
نوفمبر2002




الضَّوْءُ الأحْمَر


- "إحْذَري ..! "
صَرَخَ الشُّرطيُّ ثُمَّ ابْتَسَمَ ابْتِسَامَة مَدْرُوسَة وَتَابَعَ:
- "لا يُمْكِنُكِ اجْتِيَازَ الشّارع والضَوء أحمَر..!".
دُهِشْتُ. كَيْفَ استَطَاعَ أنْ يَبْتَسِمَ وَلَو مَرّة.! تُرَاهُ مَلَّ مُلاحَقَتِي بغَرَامَاتِهِ الْمَالِيَّة أمْ أنَه أدْرَكَ أنّي لا أمْلكُ ثَمَنَهَا، أمْ أنَّه اقْتَنَعَ أخيرًا أنَّ الضَّوْءَ الأحمرََ لَيْسَ إلاّ قَانونه هُوَ!
* "حَسَنًا..".
هَتَفْتُ وَأنا أخْفِي راية النّصْر خَلْفَ شَفَتَيَّ. َأخَذْتُ أسْتَعِّدُ لاجْتِيَاز الشَّارع ثَانِيَةً، لكِنّهُ لَمْ يَتَحَرَكْ. لَمْ يَسْتَعّدَ للّحَاقَ بي..! أصْبَحَ يَعْرفُنِي جَيِّدًا. يَعْرفُ أنِّي أرْفُضُ أنْ أطِيعَ أوَامِرَهُ وَيَظُنُ ذلِكَ لِكَوْنِهِ رَجُلا.
لِكَي أسْتَفِزَّ غَضَبَهُ قَرَرْتُ ألاّ أعْبُرَ الشّارع. قَرَرْتُ أنْ أصْلِبَ نَظَرَاتِهِ فَوْقَ خُطُوَاتِي. سَتَعْبُر.. لَنْ تَعْبُر..!
بَدَأتُ أبْحَثُ عَنْ أيّ شَيء حَوْلِي. لاحَقَنِي صَوْتُ امْرَأةٍ تُؤَكِّدُ على الهاتف: "لا تَتَأخَّر..".
إرْتَفَعَ صَوْتُ شَابٍ مِنْ خَلْفِي" تفضلي، دَوْرُكِ". تَرَدَّدْتُ، فهتفَ :"ألا تُريدينَ اسْتِعْمَالَهُ..؟!".. تَمَلَكَتْنِي نَوْبَةُ ارْتِبَاك. أُريدُ أنْ أتَحَدَثَ إلَى أيّ كَانَ لكِّنْ مَنْ يَسْمَع..! فَجْأة، اقْتَنَصَتْ الْفَرْحَةُ غَابَاتِ أفْكَاري!.. لماذا لا أطْلبُ أيّ أرقَام فَأتَحَدَثُ إلَى أيّ كَانَ..! أجبتُ بِكِبْريَاء:"نَعَمْ سَأتَحَدَثُ فَهَلْ تُمَانِع..!". لَمْ يَكْتَرثْ لِقَوْلِ لا أو حَتَّى نَعَم. فَرَاغ. مُجَرَدُ فَرَاغ يَفْصِلُ بَيْنَ الْبَشَر. مُجَرَدُ مَسَافَات لا يُمْكِنُ لإنْسَان اجْتِيَازها. إبتعدَ ربما ليَبْحَثَ عَنْ هَاتِفٍ آخَر فِي مَكَان آخَر. لا يُمْكِنهُ الانْتِظَار وَلَو لَحْظَة. قَلَق.. عَصَبِيّة.. إرْهَاق.. يَأكُلُ وَقْتَهُ بَلْ وَقـْتَ جَمِيع جَميع شَبَابنا. لماذا..؟ تَسَاءَلْتُ وَأنَا أخْنِقَ غَصَّةَ ألَم دَاخِلَ حَلْقِي. ألأنَّ أحْلامَهُم مَكْبُوتَة..!
نَظَرَ إلَى الضّوءِ بــِإمْعَانٍ، رُبَمَا لِيَتَأكَدَ أنَّه لَيْسَ أحْمَرًا . ثَمَّ، اجْتَازَ الشّارع كَالْبَرْق وَتَرَكَنِي وَحْدي أبْحَثُ عَنْ شَيء مَا. قَبَضْتُ عَلَى سَمَاعَةِ الْهَاتِف ِ وَأخَذَتْ أصَابِعِي الْنَحِيلَة تَتَحَرَكُ بِنَهَم فَوقَ الأرْقَام. زَقْزَقَ قَلْبِي. إرْتَفَعَ صَوْتُ رَجُل "مـا" يَهْمِسُ بِكَسَل ٍ :"ألووو". بَدَا لِي مِنْ رَائِحَةِ عَرَقِهِ عَبْرَ الْهَاتِفِ أنّهُ أفاقَ من حلم.
*" مَنْ..؟! ".
تَسَاءَلْتُ بِلَهْفَة. فَضَحِكَ بِعَصَبِيّة وَهَتَفَ:
- " أفْتَرضُ أنّ مَنْ يَطلبُ رَقْمًا يُعَرّفُ عَلَى نَفْسِهِ لا العَكْس!! "
* " نَعَم، ولكِنّ بِإمْكَانِي تَلْفِيق أيّ اسْم لَكَ فَهذا لَيْسَ جَوْهَرَ الْمَوضُوع. "
قالَ وَهُوَ يَتَثاءَب:
- "مَا هُوَ إذَنْ الْمَوضوع..!؟... تُعَاكِسينَنِي...!"
* "أنـَا لا أعْرفُ مَنْ أنْتَ.."
-"إذن ، عُذْرًا.. سأقْطَعُ الْمُكَالَمَة."
َصَرَخْتُ مُتَوَسِلَةً:
* " لا. أر ْجُــــــو كَ...! ".
صَمْتُهُ الْمُفَاجىء أيقَظَ عَاصِفَةً مَا دَاخِلَ آبَاري فَبَدَأتُ أرَدّدُ بِتَوَسُل:
• " ألـُو.. ألـــُو..."
- " حَسَنًا. حَسَـنًا. قُولِي مَا عِنْدَكِ...".
هَمَسَ وَصَوْتُهُ يَفْقِدُ لونه وَرَائِحَة عَرَقِهِ تَتَمَلَكُني مِنْ جَديد. أدْرَكْتُ أنّهُ يَنْتَظِرُ فَفَرحْتُ لأنّي سَأتَمَكَنُ أخيرًا مِنَ التّعْبير عَنْ مَخَاوفي فَقُلْتُ بحرقة:
* "إنّهُ الْمـــَلَلُ!!"..
- "مــــــــــــاذا..!؟".
تَسَاءَلَ مُنْدَهِشًا..
فَنـُحـْتُ:
* "الْمَلَلُ عَدُوّي!!"..

انتظَرْتُ صَوْتَهُ يُضيءُ عَتْمَةَ حَوَاسِي. انْتَظَرْتُ رَائِحَةَ عَرَقِهِ تُخَدِّرُ صَمْتِي. انْتَظَرْتُ صَرْخَةً كَصَرَخَاتِ الشّرطِيّ تَشْتـِمُنِـي. انْــــتَظَرْتُ.. انــــْتَظَرْتُ.. لكنّ الصَّمْتَ اقْتَنَصَ شفتيهِ. يَبْدُو أنّهُ نَهَضَ عَن السّرير فَقَدْ سَمِعْتُ حَرَكَة. وَأخيرًا قالَ:
- " إشْتَغِلِي ..".
أحْسَسْتُ أنّ الْجُرْحَ قد عثر على الخِنْجَرَ الَّذي طَعَنَهُ فَقُلْـتُ:
* "لا أجِدُ شُغْلاً".
- "لمَ..!"
* "بــــِسَبَــــبِ "..
.. تَرَدَدْتُ ثُمّ ألقيتُ حجرَ النردِ:
* "الْبَطــــَالَة"
- "الْبَطـــــَالَــــــة..؟!!"
* "نَعَم . أبْحَثُ عَنْ عَمَل ٍدُونَ جَدْوَى..!".
وَتَمْتَمْتُ بإعْيَاء:
وَهُنالكَ رجالٌ كالصّخور يسْتَيْقِظُونَ كالطّيُور مَعَ الْفَجر لِيُسافِرُوا إلِى مَنَاطِقَ عَمَل مُجَاورَة فَيَجدُون أنْفُسَـهُم مَطْرودينَ مِنْ أعمَالِهـِم بَعْدَ ضَيَاع ِ شَبَابِهِم فَتَضيع كَرَامتهم بصّمت. لا يبكون ولا يصرخون، بَلْ يَصْرخ أطفالهم جوعـًا، فماذا بـِامْكَاني أنا أنْ أفْعَل..!".
تَنَهَدَ ذلكَ الرّجُل. فَكَرَ. ثمّ ، َتمتمَ:
- " استَخْدمِي شَهَادَاتكِ للبَحْثِ عَنْ عَمَل."
* "لا أمْلكُ شَهَادَة" .
-"لماذا..؟!".
تَسَاءَلَ بلَهْفَة..
فَقُلْتُ بِمَرَارَة:
* " مَنْ يَدْفَع لِي ثَمَن الأقْسَاط الجامعيّة ؟! أتَظُنُّ أنَّ الْعِلْمَ لَنـَا..! نَحْنُ في نَظَرهِم دُون مُسْتَوَى الالْتِحَاق بالجامِعَاتِ. نَحْنُ عُمَالُ نَظَافـَة، لا غَيْر. الجامعات لأبنائهم هم، وحتى لو حاولنا الالتحاق بجامعاتهم , يضعون ألف عثرة في طريقنا .." ..
خفت صَوْتي وأنـَا أعلن:
* " كَمْ تَمَنَيْتُ لَوْ ألْتَحِقَ بـــِإحْداهَا....!!!!"
- "إذَنْ تَزَوَجِي ثريّا كغيرك من الفتيات" ..
* "لا يُمْكِن أنْ أكُونَ تُحْفَةً فِي بَيْتِ الّذي يَدْفَعُ أكْثَر"
-"وَ إذَنْ...!؟"
هَمَسْتُ بإرهَاق:
*"لَمْ يَبْقَ إلاّ الْمَلَل. لَمْ يَبْقَ إلاّ حَكَايا الجَدّات
عَنْ العَريس ِ الْمُنْتَظَر. لَمْ يَبْقَ إلاّ أحْلام الشُّيوخ ببُطُولَةِ الأجداد. لَمْ يَبْقَ إلاّ صَرَخَات النِّسَاءِ عَلَى أطْفَالِهِنّ حينَ تَنْتَهِي مُهمَّةُ تَنْظيف البيت فيطول انتظار عودة الزوج ويَسُود المَلَلُ حين لا يَجِدْنَ لآمَالِهِنّ مَنْفَذًا إلاّ الأحلام المستحيلة..!! أمّا أنا فَأريدُ أنْ أحيَا بكرامة، أشْعُرَ أنّي كِيَان قَادِرَة عَلَى الْعَطاء. لكّنْ، حتّى العَطاء هنا مُقَيَّد.
صَمَّتُّ. فَأردفَ بأسَى:
- " آسِفْ لأنّي لا أمْلِكُ حَلاً فَكُلّنا نتجمر في ذات المرجل".
سَألْتـُهُ بلَهْفَة:
* " ماذا تَعْمَلُ.. ؟! "
- " أنَا...!؟".
* " نعَم أنتَ... "
كَرضيع فَقَدَ ثديّ أ ُمّه ناحَ:
-"حارس لَيْلي"
خلته يمسح دمعة بللت وجنته. تابعَ بصرامة:
- " يجب أن أعودَ إلى النّوم كي لا أ ُطْرَدُ من العملِ ليلاً فَإلى لقاء." بَدأ فورا نقيقُ الهاتف يُعْلِنُ عن انقطاع المكالمة.
ألحّت عليّ هواجسي بسؤال:
تُرَى، هل عانى هذا الرّجُل يومًا من مُلاحَقَة الشّرطي..؟! هل مَلّ هو أيضا صرَخاته وشتَائمهُ ولعنتهُ أنّنا أجساد مُتحركّة.. دُمَى.! .
سقطتْ سمَّاعةُ الهاتف من يدي. سقطتْ خيبة ٌما داخل آبار أعماقي.
هَجَرْتُ عواءَ الهَاتف وأخذتُ بنزق أبحثُ عن ذلك الشّرطي. عن عينيه الزّرقاوَين وِشعره الأشقر. ألا يعاني ذلك الشّرطي من الملل..؟!
ألا يخشى هو أيضا التهديد بالطّرد من العمل.؟!..ألا يخاف شبحَ الجوع ..؟! البطالة..؟! ألا يملّ تسجيل الغرامات للمارّة..؟! ألا يملّ ملاحقة عيونهم وترقبّ خطواتهِم..؟! ثُمّ ما هو راتب هذا الشّرطي..؟! أيكفيه أن يتنفس .. يَحلُم .. يعلن لنفسه ولغيره بكبرياء أنّه حيٌّ ....!؟ ألا يُؤرقُ ساعاتِهِ الخوفُ من المَجهول ، مِنَ فجر لا يجد فيه ما يُخْمِدُ فيه فَحيحَ الجوع في أحشاء أطفاله.ألا يخاف..! أم أنَّهُ لا يُطْرَد لأنَّه في هذا الحيّ ممنوع ترْك خطوات المسحوقين دون مُراقبة، دون حصار الغَرَامات الماليّة وسياط صرخات الأسياد.

***
وَجـَدْتُهُ. عَلَى الْرَصيفِ الآخَر كانَ يتلوى. ركضتُ نحوه .
قد آن الأوان للغزالة أن تباغتَ الأسد . عِنْدَمَا تَأكـَدْتُ أنّهُ يراني
أخذتُ أجتاز الشـّارع خطوة.. خطوة.
قوانينه لا تروق لي .
ليسجّل لي غرامة أخرى.
ليسُجل أنّي ثائرة على ظِلّي.
يكفيني فخرا أن أكون قد تمكنتُ من التعبير عن موقف ٍما ولو مرَّة.

***

أخذَ صوتُهُ يُلاحقني كالسياط وَخُطُوَاتِي تُعْلِنَ ثَوْرَتها عَلى قَيوده:

- ممنوع اجتياز الشّارع والضوء أحمر..!


1984

الأربعاء، 22 يوليو 2009

"ومن لا يعرف ريتا عودة"- عرض الأديب السيد حافظ



السيد حافظ
أديب مصري
ريتا عودة شاعرة فلسطينية تعيش داخل الأرض المحتلة من مواليد 1960 مدينة الناصرة .الناصرة مدينة (مكان) الثورة والمقاومة والحب والجنون . إن ريتا عودة تحتاج إلي الإضاءة النقدية حتى ولو كانت إضاءة غير أكاديمية، فنحن نعيش في زمن ركام شعري.. يومي.. قد يمس عصب الشعر أو روحه أو قد لا يمس . نحن نعيش حالة فوضى وسراب بين الشعراء والمتشعرين تشعر بالخجل أمام نفسك إنك لا تتابعه .
ريتا عودة تنتمي إلى الشعر الحداثي فهي بعيدة عن البلاغة القديمة والصورة البالية وتملك حساً وفطنة، فنجدها قد خرجت من عباءة القديم في وهم رومانسي دون كيشوتي مفعومة بالعشق للحروف والألوان الأخضر والأحمر والأصفر والانفعالات وقوارير العطور قد خرجت لتكتب واقع وجغرافيا مشاعرها تجاه العالم . إنها تملك في شعرها اتجاهين ( الوجدان الانفعالي شعر الداخل وشعر عبثي ، معابث للشيء شعر خارجي (1) وهي تقول :

هبني مفتاح القلب
كي اقتحم أسوار الدهشة
وأعشقك كما يشتهي الخيال


وفي قصيدة أخرى :

قلبه جنسيتي
فلتسقطوا عني
متاهات القدر

وفي قصيدة ثالثة :

كن كما الحلم
مشاغباً
مراوغاً
حتى تكون الحياة
أروع من القصيدة


وفي قصيدة (ومن يعرف ريتا) قدمت نفسها :

ريتا
نرجسة
عشقت نحلة
نورسة
عشقت بحراً
لا البحر ولا النحلة
عاشاعشق ريتا

هذا الحنان المتدفق للشعر والحياة وأن تصبح الحياة شعراً والشعر حياة . قد يري البعض أن ريتا عودة امرأة منفلتة في الحياة ، ولكن الحقيقة " إن الحكم الأخلاقي على الشعراء من مجرد شعرهم ليس حكماً صحيحاً لأن سلوك الشاعر في النص الشعري لا ينطبق علي حياته وسلوكه في الحياة بل يكون أحياناً مناقضاً لها " (2) .
إن ريتا عودة تظل المرأة التي تعشق الجمال، جمال اللغة وجمال القبح وجمال الطبيعة، إن الجمال يتغلغل في دمها ويملك عليها حواسها وهو عالم خصب وبحر واسع يغوص في أدق المعاني وأدق التعابير (3) . ويبدو أن الاتزان النفسي والعقلي قد يجعل بعض الشعراء في إطار المقبول والمعقول والجيد ، لكن عدم الاتزان النفسي عند ريتا يجعلها متفردة في شعرها وتكاد تقترب أحياناً من اللحظة العبقرية ، وهذا هو سر الصعود والهبوط في مملكتها الشعرية .
إن تمرد ريتا عودة ينبع من بحثها عن الحب العبقري (حب الرجل، حب الشعر ، حب الكتابة ، حب الحياة ، حب الحب ) .. انظر معي ماذا تقول :

أحبك
كما البحر
فكلما
اشعلت فتيل المكائد
العاطفية
في ولايتي الشعرية
تحدث إنقلاباً
لغوياً
وتخلع عن عرشي
رئيس جمهوريتي:
الضجر

"إن ما هو عام ليس اذن نقيضاً لما هو خاص ، وما هو فردي ليس نقيضاً لما هو اجتماعي وما هو عيني ليس نقيضاً لما هو مجرد ، ذلك إن كل طرف يمتزج بالطرف الآخر وينفذ فيه بشكل كامل في إطار وحدة كلية متكاملة ، وهكذا ما هو عام أو اجتماعي أو فردي ومجرد أو مطلق لا يمكن أن يكون متاحاً للتأمل المحسوس كان فردياً أو عينياً في جوهره . ولننظر إلي قصيدة أخرى بعنوان (الخيانة الأخيرة) :

ساورته الخيانة فطاردها
وأبصرها تمارس الكتابة
على قارعة القصيدة
فانطلق دون أن يطلق العيار
على جسد أحلامها
بل، أطلق العنان
لغبار خيبة أوهامه

ولننظر إلى تمرد ريتا عودة حول مصطلح "أعذب الشعر أكذبه" ، فقد تباينت الآراء حول أن أحسن الشعر أصدقه أو أكذبه وهنا يبرز مصطلح "الصدق" وأصحاب الطريقة المدرسية يميلون إليه ولكن الصدق عندهم يعني ارتباط التصوير الذهني في الشعر بالحقيقة مع عدم اشتراط المطابقة الحرفية ، ومن هنا يتضح إن هذا الشق من الصدق ذو بعد أخلاقي كما يلاحظ من استشهاداتهم الشعرية عليه (5) .. وتقف ريتا عودة أمام هذا المصطلح في قصيدة تحذير:

تحذير

قيل
أعذب الشعر أكذبه
وأقول
بريئة أنا
من نزيف حبري



أما في قصيده خمس علامات استفهام
نقرأ ونعرف العفوية في شعر ريتا


أضع اللون علي اللون
علي اللوحة
أضع الخط علي الخط
أبحث له عن هيئته
أرسمه سماء
ماء .. هواء
يمتزج الأحمر بالأزرق
تتأوه باقي الألوان
عبثاً ..تتذمر ..تتلوى
أتركها تجف
وأعود
أطل علي عالمها بحرقه
فتطل عليَّ
بعلامة تعجب خضراء
وخمس علامات استفهام
صفراء ؟


الرجل الفكرة في شعر ريتا..قد تكون ريتا عودة من أنصار التلقائية والتعامل مع السهل البسيط واستخدام المفردات اليومية الحياتية ، المتنوعة في معظم تشكيل الصور الشعرية العامة ، ولديها حس رومانسي متفجر ، وهي في صراع دائم مع نفسها ومع شعرها ومع تجربتها، إنها شاعرة تجريبية، فهي تعادل في بناء القصيدة من خلال الطريقة الهندسية لها ، وأحياناً تشعر إنك أمام تداعيات هذيان أو هلوسة أنثوية مليئة بالحنان في شكل قصيدة، وكأنها تكتب لنفسها صوت وصدى في خط متواز ٍ. فهي تحمل عمق وجداني وتتوحد مع الحبيب وتلتصق بمشاعره وتتوحد معه روحياً وجسدياً في الخيال وتتمرد عليه وتهجره وتلعنه. الحبيب ، قد يكون الوطن قد يكون الجنسية ، قد يكون الحلم ، قد يكون الشعر ، قد يكون الرجل ، وقد يكون كل هؤلاء .

بقي لي ملاحظة .. فقد كان شعراء العرب القدامى عندما يقومون بنسخ ديوانهم يحذفون القصائد التي لا تتواءم مع تجربتهم .. وعلى الشاعرة أن تفصل هذا بحب شديد كما يفعل المخرج عندما يكون في المونتاج فيقوم بحذف مشاهد جميلة لكنها قد تؤثر في إيقاع الفيلم ، وقد كان عليها أن تفعل ذلك .




______________________________

المراجع :
*صدر ديوان " ومن لا يعرف ريتا..!؟ " للشاعرة ريتا عودة ، عن دار الحضارة العربية في القاهرة ، 2002

(1) شعر الحداثة – دراسات وتأويلات –ادوارد الخراط – وزارة الثقافة – مصر 1999
(2) موسيقي الشعر العربي قضايا ومشكلات – د.مدحت الجيار – دار المعارف – القاهرة – 1995
(3) الشعر المعاصر في البحرين – علوي الهاشمي
(4) نقد شعر الحداثة – محمد خلاف – مجلة آداب ونقد – القاهرة –عدد نوفمبر – 2000- العدد رقم 183
(5) كتاب مصطلح نقد الشعر عند الإحيائيين – د. محمد مهدي الشريف – وزارة الثقافة – مصر - 2000


______________________
نشر في السبت ٣٠ أيار (مايو) ٢٠٠٩
في موقع:" حيفا لنا".
http://www.haifalana.net/spip.php?article1462

المسكونة بهاجس القصيدة- محمد الغامدي



المسكونة بهاجس القصيدة- محمد الغامدي


حين تكون من تكتب هي ريتا
لااتوقع الا شيئا مختلفا
لان هذه الروح التي تحلق في مدارات الابجدية
تواقة باحثة دائما عن ذهب المعنى
وتفاصيل الوجود
ريتا تسطع بحروف قادرة أن تغير بها جغرافيه المشاعر
العمق في محصله ماتفعل
وروحها الجميلة جدا
والعالية جدا
هي من يتيح كل هذا الجمال
من أنثى جميلة
وكاتبه باقتدار
لست هنا بصدد تقديم شهادة لريتا
فهي لاتحتاج ذلك من أحد
كونت نفسها بقصيدة مختلفه
تكتب بطريقه مبتكرة
لم يغريها مايفعله البقيه في المواقع والمنتديات
بل سارت نحو ضوئها
بكلمات قليله
ونحو القصه هناك كعالم آخر تطل منه
وبكتاباتها النقديه
كردة فعل على ماحولها
تكتب بحميميه الاصدقاء
وتحمل قضيه الجمال كفانوس معلق على صدرها
كنت اشاهد الصورة في نصوص ...
تحمل دلالات متعددة
وجديدة وكنا مجموعه ممن يكتبون مع بعضهم
لكنها علمتنا شيئا جميلا
أن الفرديه طريق آخر له شكله ورائحته
وانه لابد من خصوصيه في العمل الابداعي
اتذكر ماكتبناه يا ريتا
في وعن " الحلم " وبواباته
لااظن اننا خذلنا بعضنا بقدر ما حققنا الكثير هناك مما احتفظ به
ربما قدمنا يومها اشبه بتمرين ابداعي طويل
على نصوص مدروسه وكان لكل منا طريقته البعيدة عن الاخر
كنت الوامضه الخاطفه المسكونه بهاجس القصيده التي لم تأت بعد
بينما غلب علينا اليومي والواقعي ..
... مدرسه متطورة وانا هنا لا اقدم شهادة او اقول عنها ماليس فيها
لكنها حقيقه كتابة شاعرة جميلة وقويه تخطت الكثير مما واجهها في سبيل الوصول بنا
الى النص الشعري الى بوابه الحلم الى ... كما تحب ان نراها
ابتعدت لتقول ان الضجيج لايعنيها
وان الحرف سيصل ان كان رائعا وجيدا حتى وان كان مخبأ في الادراج
تحياتي




2005-04-10



قراءة نقدية في: "محكومون بالأمل" للأديبة ريتا عودة


قراءة نقدية في: "محكومون بالأمل" للأديبة ريتا عودة


في الحقيقة لا أمتلك أدوات الناقد المتخصص ، لكن لا أشك في كوني قارئا أمتلك أدواتا قرائية أستطيع أن ألج بها إلى عوالم السرد الماتع ..
من خلال العنوان ( محكومون بالأمل ) استطيع أن ألج للنص من كونه حالة عامة لا خاصة ، رغم أن السرد يتكلم بلغة المفرد ، سؤال يتراود في ذهني ، من هم المحكومون ؟ . هؤلاء المحكومون بأمل وألم متربصون بحاكم وحكم ، قد يكون الحاكم منصفا وقد لا يكون ، وقد يكون الحكم منصفا وقد لا يكون ، والمحكومون في حالة ترقب للأمل المتأتي من الحكم والحاكم معا .
من خلال النص : اللعب على كلمتي ( الأمل ) و ( الألم ) ، كمفردتين لامستهما لعبة لغوية تسمى ( القلب ) ، من خلال قلب وضعية حرفي الميم واللام ، ومع القلب اعترى المفردتين تغير عظيم في المعنى ، فحين يطول الأمل بالنفس يتحول إلى أنقاض تتسرى ألما فيها ، الكلمات المتقاطعة التي تعبر عن مدى الفراغ ، والفراغ بأنواعه المتباينة يولد نفس الحالة القهرية مع فارق نسبي قد يكون بسيطا وقد يكون عظيما ، إلا أنني ألمس فراغا عاما يتمثل في شخصية القصة ( هشام ) ، وبانتقاله من حل الكلمات المتقاطعة التي تنقل بطلنا إلى تقاطعات روحية تتسبب في طفو صور تمثل جانبا أليما لديه ، ينتقل إلى واقع آخر يناقش فيه فراغا عميقا في بحثه عن وظائف شاغرة ، كسب لقمة العيش التي تمثل الهاجس الأكبر للبطل سدا لأعين ترمق يديه أملا في ما يشبعها وألم من الجوع التي يمتد بين عروقها ، ومن الفشل الذريع الذي يخرج به بطلنا يلقي بالصحيفة حين يشتم رائحة عفنة مصدرها الزيف الماثل بين يديه متمثلا في صحيفة .
الخروج من بوابة الزيف : النافذة التي يبحث بطلنا عنها ، وكأنها تتمثل أمامي هروبا من صراع النفس مع الذات / المجتمع / الحياة ، هروب إلى المحيط الذي يمثل الحقيقة المحضة أمام بطلنا ، الطبيعة التي تمثل امتدادا لكينونة الإنسان ، بياض الثلج ، أسراب السنونو ، والانتقال إلى العوالم الأكثر بساطة متمثلة في أطفال يلعبون بالثلج ، يبنون رجالا منه ، يصرخ بعمق أن هؤلاء هم المحكومون بالأمل ، من هم ؟ إنهم الأطفال الذين لا تعنيهم أمور تمثل الحياة بزيفها وألمها ، ليعلن انه ومن على شاكلته هم المحومون بالألم .
العودة إلى الحلم المشوب بالحسرة : ينقلنا هشام إلى عوالمه الطفولية ، لقطات سريعة تمر عبر ذاكرته الطفولية ، المدرسة .. المنزل .. الأم ، عودة إلى حالة خاصة يسترد في غفلة الجميع حياة فائتة يمحو أو تزيل ركاما من عذابات . الحدث يتماهى في الحفرة التي تمثل حالة هرب ذريع ، على امتداد جسده كانت الحفرة ، ألقى بجسده وراح يخفيه قليلا قليلا حتى اخفاه إلا راسه ، الشمس التي يحاول بطلنا استرداها وكأنها الحقيقة الغائبة ، والحفرة المتعلقة بالأرض والانتماء إليها تمثل الانسلاخ من حالة الانتظار إلى اتخاذ القرار ، فلون الجسد بلون التراب ، ولون التراب يمثل الانتماء الحقيقي ، الارتفاع حالة من السمو والخروج من الممكن إلى المفترض ، والعلو هي سمة طبيعية للنفس الإنسانية ، حالة الارتفاع تمثل الطيران ، والتحليق صفة للنفس حين يقيدها قيد أعظم ، ورغم ذلك فالارتفاع مشروط بعدم ذوبان الصمغ الذي يثبت جناحي الطائر المحلق ، والتحليق كشف للزيف الماثل وتعرية للحقيقة المفروضة فرضا . نبش الحفر ونهر الأم لبطلنا من عودته إلى عادة طالما استمتع بها لأنها تمثل النافذة المشرعة أمامه للانتقال من الألم إلى الأمل ، حتى لو كان الانتقال زائفا والنافذة وهمية إلا أنها تمثل حالة تنكشف فيها الحجب التي تستر الحقيقة . شعرت بحرف ( القاف ) ، تخيلته ، نطقت به وكررت نطقي له ، كانت لقطة استملحتها وشرعت في الغوص في ثناياها ، العقاب الماثل أمامي والعفو الماثل أمام البطل ، كلاهما عنوانان لأمنية تنتاب الجميع .
انتقال أخر إلى نافذة حقيقية لا تمثل النافذة الأولى ، وكأن الأولى عبور للماورائيات ، والثانية تمثل العودة إلى الواقع ، ورقات ثلاث ، للامل .. للألم .. ورقة ثالثة فارغة تنتظر إما أن يخط هو عليها أو أن يخط الآخر المنتظر عليها ، وتكرار يلازمني للخواء الذي ينتاب المعدة .
رجل الثلج الذي عبر امامنا في لعب الأطفال في زاوية من السرد ، يعبر أمامنا من زاوية أخرى ، في الزاوية الأولى كان مجرد رجل ثلج يعبر عن لعب أطفال محكومين بالأمل ، أما في الزاوية التي نقلنا إليها البطل كانت تعبر عن أمل تحول إلى ألم ، فهنا رجل الثلج يمثل للمحكوم بالألم ذلك العربي الذي غض طرفه عن حال أمة تعاني أيما معاناة ، يعبر عن وطن سليب فرطت فيه شعوب تتصل معه بدين ولغة وانتماء .
نهاية ساخرة ، تعلق في ذهني ألف صورة وصورة للحياة التي يعيشها أولئك المسلوبون ، حياة بائسة يتربع على عرشها أمل كسيح وألم فصيح ، ضحكة اولى على جرج وطن سليب ، ضحكة ثانية على ضياع هوية ، ضحكة ثالثة على ( رجال الثلج ) المتقوقعون في خارطة الوطن العربي ، ضحكة رابعة أضيفها إلى الضحكات الثلاث على حاكم حكم أن الحق للظالم على المظلوم .


القاص السعودي – العباس معافا
2004







محكومون بالأمل
ريتا عودة



كلمة "ألم" مكوّنة من ثلاث حروف أفقي، يقابلها كلمة "أمل" من خمس حروف عامودي. أكدحُ ذهني. اللعنة على هذي الكلمات المتقاطعة! إنّها تستحوذ على أفكاري وتستنفذ كلّ طاقاتي. تتزاحم الكلمات في رأسي تتضافر لتتقاطع صورا على صفحة الذاكرة. أحبسُ أنفاسي. أتنهدّ. أنتقلُ لصفحة الإعلانات عن وظائف شاغرة. ربما يحالفني السعدُ اليوم فأعثر على لقمة تكفيني سدّ عوز عائلة تتعلّق بعنقي كحبل المشنقة. تطاردني رائحة عفونة . ألقي بالصحيفة فوق الأرض. أعود فأتنهدّ وأبحثُ عن نافذة .
***
يستهويني منظر الثلج وهو يتساقط بخفّة كأنّ أسرابا من الطيور خلعت عنها ريشها ونثرته في الفضاء. يستهويني صخب الأطفال وهم يركضون حُفاة ً تحت الثلج دونما شكوى، يتنافسون على بناء رجال من الثلج .
هؤلاء هم المحكومون بالأمل...! نحن المحكومون بالألم ..!
تحرّكَ الحنينُ داخلي إلى مرتع الطفولة، إلى أيدٍ صغيرة تتسابق لتصطاد العصافير من أعشاشها فتزجّ بها بفرح داخل الأقفاص الصغيرة وتروح ترقبها بفضول، وشيئا فشيئا تذبل اللهفة حين تدرك أن العصافير لا تغرد إلا على شجر .
***
ألقيتُ حقيبتي المدرسيّة فوق عتبة المنزل. الباب موصد. لمحتُ والدتي وأنا في طريق العودة من المدرسة تدخل الجامع بخطوات
مُتثاقلة. لا بُدّ أن أنتهز بضع دقائق لأستردَّ الشمس في عروقي. خلعتُ حذائي وواريتُ جواربي المثقوبة في أقصى نقطة منه. طفقتُ أنبشُ حفرة على طول جسدي النحيل داخل تلال الرمل.
ببرود هبطتُ داخلها . طمرتُ جسدي حتى عنقي. الشمس في منتصف الحلم وأنا بحاجة للدفء .أغمضتُ عينيّ ورحتُ ارتفع. هكذا سأبقى في ارتفاع دوما. لا أخشى إلا أن يذوب الصمغ عن جناحيّ وأنا أقترب من الحقائق برشاقة. تمطّى ظلّ قربي وارتفع صوت ينخر ضميري:
- هشام ....؟! عدتَ لنبش الحفر ...؟
امتدّت ذراعاها نحوي لتنتشلني من مرتع أحلامي. ارتعدتُ . سقط منديلها المبرقش فوق يدي. بانت ضفيرتها الشائبة. تلوّى فستانها الأسود المطرّز بقطب فلاحيّة بالية وهي تنحني لتنتشلني من الحفرة. انحسر فمها عن أسنان متهالكة.
- يا قلبي لمَ تهوى المشاكسة ... !؟
كالمعتاد جاء حرف القاف رخيمًا مضمخا بالنبرة الفلسطينيّة التي تطرب قلبي. جحظت عيناي. تراها تعفو عنّي هذه المرّة أم ستعاقبني.؟! قالت بحنوّ وأنا انتصب كشجرة نخل في جنتها:
- يا صغيري، هيا إلى طشت الماء .
طفقتُ أتهادى بفرح أمامها كجندي مشاة ٍ في يومه الأوّل.
***
نظرتُ عبر زجاج النافذة. الشمس محتجبة منذ سنوات. سأنتهز بضع دقائق لأستردّها في عروقي. فتحتُ الباب برويّة وخرجتُ. في السماء غيوم متلبدة. في القلب ثلاث ورقات. ورقة للأمل وأخرى للألم , أمّا
الثالثة فما زالت تحمل بياضها.
رحتُ أتناول الثلج وأكدسّه كومة فوق كومة. سأبني رجلا من ثلج. هذا الذي طالما راودني في صحوي ومنامي ووهبني قصفة حبق تُعطّرُ عفونة شتاتي فتجعل للمنفى طعم وطن. أشرقت ِ الشّمسُ في عروقي. سأضع له عينين من خرز ،أذنين من خشب، وفم من صوّان. سآتيه كلما اشتدّت وطأة الغُربة على قلبي. ها هو كما دوما تخيلته، رجل من ثلج.. !
***
_ هشاااااااااااام !!
حاصرني صوتها وكأنّه الماضي المستمر. وقفتْ قربي مذهولة ً. تارة ً تتأمل رجل الثلج وأخرى تتملّى ملامح وجهي. تراها تراني مشاكسَا بعد مرور أكثر من عشرين سنة على أعراض الطفولة..؟!
انتصبَ الرعبُ ككوز من الصبّار في جوف حنجرتي. ابتسمتْ برقّة.
حاصرني حنانها من شرقي إلى شوقي:
- يا ابني ألم تكبر على اللعب بأعصابي..؟!
تحرر قلبي من قبضة الرّهبة. قهقهتْ بصخب. أصابتني العدوى.
قهقهتُ..
ههه .. على جرح وطن سليب .
هههههه... على ضياع هُوية .
ههههههههه ... على رجال من ثلج على امتداد خارطة الأوطان
العربيّة. ههههههههههههههههه.



2004

"عالم ريتا عودة الإبداعي" بقلم الأديب عدنان كنفاني


عالم ريتا عودة الإبداعي..نساء مضروبات.. نموذجاً..

لا أخفي في إنني أتابع عن كثب الاطّلاع وقراءة الكثير من النصوص القصصية والشعرية التي تكتبها المرأة.. ولا أقول "الأدب النسائي" لأنني مؤمن بأن الأدب بالعام فضاء تحلق فيه الأقلام والأرواح النسائية والذكورية على ذات القدر، في محاولات جادّة مكمّلة وليست متعارضة..
ومن المؤسف حقاً أن الكثير من النصوص الإبداعية التي تكتبها المرأة "ولا أقول كلّها" لا تخرج عن مرارة الشكوى المرتبطة بشكل أو بآخر بمشاعر حرمان، أكثرها أضغاث أوهام مختلقة مؤسسة على تراكمات موروثة عن عالم ذكوري وعن إحساس مبالغ فيه بالظلم يقودها بالتالي إلى التقوقع وراء سدود وهمية والتفرّد في الحديث الجدلي عن العاطفة والجسد -رغم أهميتهما- دون الدخول في محاولة جادة لتحقيق مساواة مثلى لا تقتصر على العاطفة والجسد بل تذهب أبعد في مشاركة وممارسة حقيقية لدورها الأسمى في كونها حقاً نصف المجتمع بل ونصفه الأهم..
أتساءل.. وهل يقتصر دور المرأة في حركة الحياة على لهاث لا يتوقف وراء سراب ظنون ليست من الواقع في شيء.؟ بل وتنحرف غالباً إلى تطرّف يصوّر المرأة كما نرى ونتابع عبر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية إلى سلعة تجارية استهلاكية أو وسيلة متعة ليس، إلا وهذا ما لا أرضاه لها فهي بالمحصّلة أمي وزوجتي وأختي وابنتي.. وهي شئنا أم أبينا النصف المكمّل لدائرة الحياة..
ريتا عودة وقد شدّتني كتاباتها، وكنتُ قد تابعت قراءة الكثير من قصائدها ودواوينها الشعرية الصادرة ولا أخفي إعجابي بها فقد أوصلت لي وجعها الذي لا يختلف عن وجعي.. حملته إليّ على أجنحة مسبّبات لم تجلدني -كرجل خصم- ولم تضعني في قفص الاتهام بل اخترقت ذلك الحاجز الوهمي وانخرطت في البحث معي عن الأسباب الحقيقية التي تؤرّقها بذات القدر الذي يؤرّقني، ولم تخرج عن شفافية الأنثى..! أحسست بها يداً حانيةً إلى جانب يدي نحمل سوياً مسؤولية البناء، وبقيتْ في مشاعري تلك الأنثى.. وأنا الرجل.. ضروريان مكمّلان ولسنا على حلبة صراع..
كان لا بد لي أن أدخل عبر هذه المقدمة الطويلة إلى عالم ريتا عودة الإبداعي.. فلسطينية عربية، صامدة في مدينة الناصرة تحت سطوة الاحتلال الهمجي.. أدخلتني دون ضجيج، ودون صراخ، ودون لافتات شعاراتية مكررة إلى عالم كان بالنسبة لي على الأقل مجهولاً، وجعلتني ألمس حتى أدقّ التفاصيل، وأصغر الإشارات التي وإن بدت لنا في مكان غير المكان عادية..
قرأت لها نصوصاً قصصية فعرّفتني على جدار المدرسة المتهاوي الذي رافق رحلة قهرها وهي التي تعيش في عالم صوّروه لنا إعلامياً أنه ذلك العالم المثالي الذي توضّع على عمرنا ليعلّمنا الحضارة..! فنجده عند ريتا عالما مزيّفاً يتقصّد مراقبة الجدار يتهاوى ويتهاوى حتى يسقط.. وهي الإشارة الأكثر وضوحاً وحقيقة في محاولة وافدة مدروسة لتذويب ثقافة متأصلة وتعميم ثقافة مزيّفة..
ثم.. استوقفتني طويلاً قصة قصيرة عنوانها (نساء مضروبات..؟) أليس إشكالياً هذا العنوان..؟
ماذا يعني نساء مضروبات..؟
أعلنتُ جهلي..! لكنني لحظة دخلت النص.. صُعقت..
هن النساء اللاتي يتعرّضن لتعذيب جسدي على أيدي أزواجهن أو ولاة أمورهن.. حسناً ثم..؟ تقول ريتا هناك بيت لهؤلاء النسوة من المفترض أن يكون بيت أمان يحميهنّ ويحقق لهنّ العدالة..
الله.. وهل أجمل من هذا..؟ ونحن في مجتمعاتنا العربية لم نسمع بمؤسسة أو هيئة اهتمّت بمثل هكذا أمور.. وقبل أن يأخذنا الخيال إلى تصوّر مجتمع مثالي مستورد تقول ريتا: هي بيوت حقّ يراد بها باطل.. كيف.؟ تقول ريتا دون صخب وتصوّر لنا تلك الحياة المزرية في تلك البيوت التي تبدو من الخارج حضارية لتكتشف لحظة ولوجها مأساوية الملتجئات إليها مع أطفالهن وزحمتهن وسط خدمات معدومة.. وميزانية معدومة.. ومشرفات أسيرات عجزهن.. وتفرّغ لك فجأة كل صورة كادت تتألق في ذهنك، وتسقطك على واقع مرير لنساء التجأن إلى بيوت المضروبات للحماية ليتحولن ذات فجأة لتعلّم ممارسة أشد وأقسى على المضروبات الجديدات ليكنّ خادمات للمقيمات قبلاً.. هي صورة لسجن من نوع جديد لم يسمع بمثيل له أحد من البشر من قبل، تحت يافطة برّاقة تخفي بين حروف الكلمات الساحرات أنياب ذئاب مسعورة تنهش فينا حتى أطراف الهوية، وتقتلع منّا ومضة الإنسانية على أبشع شكل وأقسى صورة..
ريتا أوصلت إلينا وجعها ووجع تلك الشريحة من البشر دون ضجيج.. واخترقت حاجز السؤل الذي لم يخرج عند الآخرين عن فجاجة السؤال حول حقوق المرأة والمساواة ولم تنس أنوثتها بل حملتها بشفافية الكلمة ورقّة الروح وعذوبة الصور والكلمات وفرضت وجودها الطبيعي إلى جانبي محققة ودون ضجيج أيضاً لا أقول اختراقاً لكنني أقول ومع سبق الإصرار دورها المساوي لدور الرجل مكملّة معه وإلى جانبه دائرة الحياة.. ريتا عودة ننتظر منك المزيد من ومضاتك الإبداعية فكم نحن بحاجة للتعرّف أكثر على طرائق صمودكم داخل الوطن،
ويشرّفني أخيراً أن أقول وبملء الفم.. ريتا عودة لقد طويتِ بنصوصك الرصينة كل السؤالات العقيمة وغير المجدية.. وحققت على أرض الواقع مساواة من نوع فريد أتمنى من أخواتي الكاتبات المبدعات أن يسلكن ذات الدروب التي سلكتِ، يحملن إلينا شذرات شفافيتهن مكمّلات لنا نحن الرجال.. فقد أصبح من الملحّ أن نكون شركاء في مسيرة بناء وليس على حلبة صراع..



الأديب عدنان كنفاني
2002




نساء مضروبات
نساء مضروبات- ق.ق.ج
ريتا عودة



قررتْ أن تبثّ همّهـُنَّ للمديرة , فنهضتْ عن سريرها وهرعت إليها .
على باب المكتب المفتوح على مصراعيه , تعثرتْ بمسمار اصطاد
طرف فستانها الطويل . صرخت بوجع وهي تنتشل الثوب من
براثنه بعدما تمزق طرفه :
" تبــّا للنحس المُزمن !"
(راحت ترتب أفكارها . يجب أن يتم توظيف عمال نظافة في هذه المؤسسة الاجتماعية كما هو الحال في كل مؤسسة حكومية, فمن غير المعقول أن تقوم النساء المسحوقات نفسيا, أنفسهن بهذا العمل الشاق !! هل يعقل مثلا أن يقوم طلاب المدارس بتنظيف المدرسة !؟ أم أن الميزانيات تمتد حتى كل المؤسسات وتنحسر فقط عنهن!)
استجمعتْ شجاعتها بعدما استقبلتها المرأة العجوز برأفة , فأخذت تلقي همّ أخواتها من النساء المضروبات على كتفيّ مديرة الملجأ :
-" المبنى كبير , يعجّ بالنساء والأطفال , نحتاج من يساعدنا في تنظيف الغرف وطهي الطعام والاعتناء بالأطفال وووو..."
تلاشى صوتها وهي تستقبل التعليق الفوريّ للمديرة الحنون التي نظرت اليها بشفقة من وراء نظاراتها الطبيّة وهي تردد من خلف مكتبها الخشبيّ الطويل: " ماذا بامكاننا أن نفعل يا عزيزتي!
في هذا الملجأ .. ينقصنــــا نساء مضروبات !"


قراءة في قصة: "الحلم الأخير"لريتا عودة، بقلم الأديب عدنان كنفاني



ريتا عودة تبحر بنا على زورق حلم إلى ألف حلم- قراءة في: "الحلم الأخير"


هل هو الحلم الأخير.!؟
طفولة تلك التي تتعشق طائرة من ورق.. أم تراها براءة الحلم..؟ "أمـُدّ يدّي النحيلة خلف الوسادة لآتي كما الحاوي بطائرة ورقيّة لونّتها بالأحمر والأبيض والأسود والأخضر."
بين ومضة الحقيقة، ورشاقة الإغفاءة، يغوص الحلم، ويغوص بنا أكثر وأكثر، فنمسك عبثاً بوطن يتسرب كما تتسرب حفنة رمال من كفّ طفل.. وفي كل مرة نصحو على خيط يفلت. ويكرّ شريط الصور، وتتدفق الحكايات على موجة لغة مشغولة بخيوط من فضّة، لها الرنين الموجع، ومنها البريق المأمول.
تأخذنا ر. إلى لا مكان لنجد أننا في كل الأمكنة الساكنة في الذاكرة. ننطلق من ركن ليس له في قواميس اللغات اسم، بل مجموعة دلالات مرعبة تختصرها حروف.. حروف فقط تقيم "مخيماً" فيغدو المكان الأثير.. ويصبح سقف الصراع الغريب أن تحافظ على مخيم، وطائرة من ورق تحمل الوطن وتستحم في فضائه.
مخيم مركون في أرض عراء، وطفل يحلم، وخيط يرقص على وقع قهر.. واغتصاب مقيت..! تعبر بنا ر. فسحة الزمان، لنجد أننا في كل الأزمنة نواصل الغوص إلى لا قرار. نركض للنجاة، ونركض لنقتل الوحش، ونركض كي يعلو الهتاف، نركض كي ترفرف الرايات، ونركض كي نخلي مكاناً لصيحات الشعارات.. ونركض كي ننسى الجوع..
"بالروح بالدم نفديك يا...."
ثم.؟ لم يعد من ثم.. تعلن الغابة شريعتها، ويأتي القوي تلو القوي ليقيم مجزرة الاغتصاب.
يغتصبون جرحي وطائرة من ورق.. في سكون ألوانها براءة أمّة كل ذنبها أنها تحاول أن تمسك الخيط.
حتى هذا القليل تغتصبه عورات الغرباء..
ويلج الألم عميقاً أكثر عندما ينصر ذلك الغريب أنا الآخر الذي يحمل وجهي ولغتي وتاريخي.
ونواصل عجن أمنياتنا بين طيّات ورق ملوّن "طائرة"، نربطها بخيط كي لا تخرج من ذواتنا، أو تأخذنا معها، ثم نطلقها إلى الريح تهدهدها برقّة وتأخذها إلى حيث نتمنى أن نكون.. نمتطي جناحيها ونبحر إلى عالم آخر ليس له وجود إلا في شفيف الحلم. "أصعدُ إلى القمة ككل يوم وأنا أحلم بتحرير الطائرة التي يربطني بها ذلك الحبل الرفيع .."
نركض.. مع الريح وعكس الريح كي ننجو من الرياح العاتية، ولا يربطنا بهذه السهول والسفوح غير ذيل خيط. لو أفلت من بين أصابعنا سنبدأ لا محالة رحلة مطاردة بين أمل كان على حدّ الملمس وبين طائرة ذاهبة إلى غياب..
أيها المخيم.. هل تنمو بين سقوفك الهزيلة أحلامنا الكبيرة.؟
وكيف ترضى زوار يبك المسحوقة جوعنا.؟
"درس التاريخ كان صعبا للغاية اليوم.!"
تراه التاريخ هذا الظالم.؟ أم من يكتب التاريخ.؟ أم تراها تلك الطائرة المشرعة إلى ضياع.؟
"آآآآه يــَمـــّا..!"
موجوع أنا مثلكِ، كلنا نركض وراء الرغيف والخيط والألوان.. والحب.!
كلنا ينحني ليلتقط حجر..
"سيرفعون اليوم صلاة ً على روح الغائب.!"
فهل يكون هو الحلم الأخير حقاً.؟
وهناك في البعيد روح تحلم بطائرة من ورق على جناحيها هدأة حلم وعنفوان مصير ولا سبيل غير البقاء.. لا سبيل غير البقاء..
ر. ع .. بخطىً واثقة تلجين عالم الحداثة، عبر تشكيلات لغوية نبيلة، وومضات تشي بكل وضوح بالمعنى والقيمة والرمز والهدف.. كلها خلاصة كلمة تصل شفّافة إلى كل من يعيش هم الراهن.
خطواتك ثابتة فخذينا إلى عالمك القريب جداً.. جداً من فورة النزيف.
وصلّي ما استطعت على أرواح الغائبين.


الأديب عدنان كنفاني
2002






الحلم الأخيـر
ريتا عودة



ألهثُ فوق السهول خلف طائرتي الورقية، والريح عاتية. أرى الخيط المتدلي منها، كأنه أمل ضرير. أركضُ عكس الريح.
- بالروح بالدم نفديك يا..
يتعالى الهتاف من حولي وأنا لا أبالي. لا أحلم إلا باستعادة تلك الطائرة. ألقي حقيبتي المهترئة فوق حصيرة القش وأمدّ يدي النحيلة خلف الوسادة لآتي بطائرة ورقية لوّنتها بالأحمر والأبيض والأسود والأخضر.
أغادر المخيم وأنا أتأبطها، أخفيها بمهارة عن العيون وكأنّها حلم أخشى أن يسرقه مني أحد.
- كل يوم عدس؟!
هكذا اعتدت أن أتبرم وأتلوى كلما عدت ظهراً إلى حضن أمي. ما بالي اليوم أرى أن العدس نعمة بمقدورها أن تخمد هذا الجوع الكافر الذي أخذ ينهش أمعائي..؟! ما من طعام اليوم. أخمد جوعك بالجري في الحقول يا خالد. قالت أميّ بأسى. فغادرت بسرعة وبدأت بصعود الجبل.
**
رميتُ الصخرة خلفي وأنا أصعد إلى القمة، أحلم بتحرير الطائرة التي يربطني بها ذلك الحبل الرفيع وككل يوم حين أفلت خيطها المربوط الى كف يدي، تنفلت من قبضة القلب كل أوجاعي الدفينة. مرّت ساعة. زالَ ألمُ أحشائي. الآن بإمكاني أن أبدأ رحلة العودة.
ولد مفتول العضلات إعترض طريقي. إرتمي ظله فوق ظلي.
- هذه لي.
قال بسخرية فانفرجتْ شفتاه عن أنياب صفراء. تشبثتُ بطائرتي. واريتها خلف ظهري وأنا أهتف:
* هذه طائرتي أنا..!
- بل هي لي، هاتها وإلا..!!
اقترب مني وبدأ يلوي يدي يحاول أن يغتصب الطائرة لكنني استجمعت كلّ ما املك من عزيمة لمقاومة غطرسته. لمحتُ حجراً صغيراً على الأرض فانحنيتُ أتناوله. مرّ بنا شاب أنيق. استبشرتُ به خيراً. فصل بيننا. ثم وقف كالمسمار المعقوف، رأسه في اتجاه الآخر. هتف من عليائه:
- أعطه الطائرة يا..! ألا يكفي أنك سرقتها منه، تريد أيضاً أن تضربه بحجر.؟!
أفلتُ الطائرة من يدي. استجمعتُ كل ما أوتيت من عزيمة وضربته بالحجر. بدأ ينزف. انشغلا عنّي. أخذتُ أعدو خلف طائرتي بجنون لأستعيدها وكأني سأستعيد حلمي الأخير.
**
- بالروح بالدّم نفديك يا..
تجمهر المارون من حولي. تملصتُ من دوامة الطنين دون أن تغفل عيناي لحظة عن طائرتي. خفتتْ أصواتُ المتظاهرين وهم يسيرون باتجاه المقابر. بدأتُ أسيرُ باتجاه النهّر، أقتربُ من الحبل. قفزتُ نحوه بكلّ ما أوتيتُ من قوّة. أخيراً، قبضتُ عليه. جذبتُ الطائرة إلى قبضة يدي. تنهدتُ. أغمضتُ عينيّ. أخذتُ نفسًا عميقًا. زفرتُ الهواء من رئتي. أستكنتُ. مسحتُ الوحل عن ثيابي. شرعتُ بالبحث عن حقيبتي لئلا أنال اليوم عقاباً من والدتي. آ آ آ ه يمّا..!! درس التاريخ كان صعباً للغاية اليوم..! المدرس كان يتحدث بصوت رخيم عن صلاح الدين الأيوبي، وأنا كنت أحلم بالطائرة وكأن قلبي دليلي.


**

- الله اكبر..الله اكبر ..
إرتفع صوت المؤذن. موجة دفء دثرتني فأخمدت اضطراباتِ أمواجي. شرعتُ بالعودة. يجب ألا تفوتني صلاة الظهر. حتماً سيرفعون اليوم صلاةً على روح الغائبين.


2002


قراءة في: " أشعل قنديلا وأمضي" لريتا عودة بقلم الأديب عدنان كنفاني


صديقتي.. هو النفق..!؟

ريتا عودة في قصة (أشْعِلُ قنديلا وأمضِي..) أشعلتْ أمامنا القنديل.! فكشف عن وجوهنا القبيحة.. جَلَدتنا، أوجعتنا، حرقتنا، شنقتنا.. ثم مضت.. فهل من أثر.؟ (ثمّة مرجل مُتقدّ في نهاية النفق.!)
هكذا تبدؤنا الحقيقة، تلقي إلينا بطوق نجاة، نحسبه سينقذنا من سواد ليل، إلى نور صباح.. فتتماهى حواسّنا بين خوف وسط ظلام محسوس، وفرحة انتظار فرج من مرجل يفور أضواءً في نهاية النفق.. وعبر هذا النفق نقلّب على جنبات الوجد كل صنوف العذاب والقهر والإذلال..
أيّ وجع هذا يبتعد عميقاً في الأسى، فيردد العذاب القاهر غناءً على أوتار لغةٍ في رحلة عبر ذواتنا وواقعنا وحالنا إلى مجهول..؟
(أبحثُ عن بُؤرَة نور.!)
هو فعل التصميم الداخل في نسيج الروح.. هو الأمل الذي لن يتوقف حلمنا في الإمساك به. وهي "الكاتبة" مثلنا تنتظر وتبحث عن بوّابة الخلاص.
(أخرجُ منَ الباب الضيّق إلى.؟)
ٍ إلى أين الخروج.؟ وإنت في مضائق النفق ما زلت تتقلبين على صفائح التهمات والقهر.؟ (أعثرُ على قنديل صدئ تحت سرير.. أشعلُهُ.!)
ثم ماذا أيتها الموجوعة، تراك تغني فرحك باللقيا.؟ ولو أشعلت القنديل.. هل من خلاص.؟
(تفوحُ منه رائحةُ عفونة.. عبثًا نحاول أن نُعطِّرَ مزبلة..!)
رباه.. هذا إذن.؟ تتلاحق الحروف تنصُبُ أمامنا المشانق، وتعلّق رقابنا.. نحن.. أجل نحن أولئك المتعمّدين بغسل الشياطين.. نحن الراكدون على قشرة ماء في مستنقع ضحل.. نحن الغائبون في البحث عن ترف مَعِدَة، وترف جسد، ورغبات مجنونة لن تنتهي.. (البرد ُقارس... أسيرُ قُدُمًا تتهدّجُ أنفاسي.. أتجهمُ.. أتنهدُّ.. أُبْصِرُ رُؤىً فاغرةً أطفال جائعين.. صخرة صمّاء.. حقائب مدرسيّة بالية.. طيور مذبوحة)
تواصل التقطيع في أوصلنا وفي أوصال النص.. تبدأ بجملة فعل تحسب أنها رويّ جديد، ثم تدرك أنها جدول صغير يجري بتؤدة إلى مستقرّ، ثم سريعاً يعود إلى قلب النفق، قلب السرب. ويدعم تواصل السرد. هنا.. في أسلوب القطع هذا.؟ في تقطيع وبتر نهاية جملة وبداية جملة. أقول: هو فنّ حداثي متطوّر وجميل يشتغل على التعرية دون وجل، تعرية الذات والآخر، والإفصاح عن الصحيح من قلب الغريب ولا غبار، وله نكهة جمال لو قرأته عبر نص أو نصين أو ثلاثة نصوص للكاتبة.!
لكن أن يتكرر مرة بعد مرة أخاف أن يصبح نهج طريق، وهذه هنة أرجو أن تنتبه لها الأديبة فهي تملك الأدوات وعليها أن تشكل النص على كثير مذاهب..
("شرطي يطارد رغيف خبز في يد طفل" "نظّف يديك للأكل لا للكتابة.!" "هي عذراء يا ظَلَمَة.!")
يختلط الخاص بالعام، السياسة بالإنسان.. الوطن بالمجتمع، هزيمة الذات وهزيمة الوطن.. والنفق يعجّ بصور مرعبة، كأنها أنياب مفترسة لا تغتالنا فقط.! بل تسخر منا..
ويتواصل الذبح والرفض والتدليل المفزع إلى مواطن هي في نسيج كل أمر أخذنا إلى القاع..
("من يرضَى أن يعيش حشرة, لا يحزن حين تَدُوسُهُ الأقدام")
خلاصة الكلام جملة.. تختصر كل المسافات وتغرقنا في متاهات سؤال.. والنفق مظلم.. والمرجل في آخره ينتظر إطلالة الحالمة..
(أصلُ نهاية النفق. ألقي القنديلَ وأخرج إلى النور.!)
وقفة في وهج النور وغليان المرجل وفسحة الخلاص.. رباه.. هل هي النجاة.؟ (تتهدّجُ أنفاسي.. أتجهمُ.. أتنهدُّ.. تُراني بدأتُ أغرقُ..؟!
أي خلاص هذا والوجع يبدأ.. الآن.!
أشعَلتْ قنديلاً، خَرَجت من النفق، ألقت بالقنديل لتستقبل النور الأبهى.. فجأة تكتشف وتصرخ في وجوهنا.. لا.. ليس من مرجل، وليس من نور ولا مشعل.. كل شيء خرافة.. الآن نبدأ الغرق.!؟
وتتركنا نحن بعد أن وضعت أمامنا المفاتيح من مضادّات العبر لنقول.. النجاة في أن نقفز فوق كل السواد، أن نعلن من دواخلنا بالقول والفعل والتصميم وعبر مساءلة الثواب والعقاب.. أن لا خروج إلى النور الحقيقي من النفق إلى العالم المشرق إلا من فرجة الخروج من ظلمات الذات..
حروف نزقة تتلاحق بجنون لكنه الجنون الصاخب الذي يستلهم من وجع الروح خطواته النارية الصارخة الموجوعة المذبوحة.. تقطر دماً كي نعبر في آخر رفرفة ذبحة الألم إلى حديقة من عطر. فتولد القصيدة من رحم الكلمات، وترتدي القصة رداء الشعر، وتتداخل الأجناس تعلن عن ولادة حداثة محمولة على أجنحة اللغة.
وأخرج من فكرة النص إلى شاطئ آخر بعيداً عن نكهة الألم لأخاطب فن الكتابة وأتساءل قرأنا ر. الشاعرة.. فهل يستطيع.. الشاعر أن يصبح قاصّاً..؟ وهل يستطيع القاص أن يصبح شاعراً.؟ وهل يمكن الجمع "في الكتابة" بين جنسين أدبيين يحمل كل جنس شروطاً تختلف عن الجنس الآخر.؟ ولو استطاع أن يسير الكاتب على المسارين فهل يكون الإبداع في جنس على حساب جنس.؟ أم يتفوّق بكليهما.؟ أم العكس.؟ وإلى أي مدى يحقق وجوده وعلامته على مسرح المشهد الثقافي.؟
هي أسئلة وربما إشكالية.. ولا أتصوّرها محاولات استعداء بين جنس أدبي وجنس آخر، ولو تحقق النجاح في سلوك الجنسين لتحقق للكاتب المزيد من الإبداع. فهل يحق لنا أن نتساءل عن الأدوات التي يمكن لو امتلكها الكاتب تأخذه إلى ذلك النجاح.؟ أزعم أن اللغة هي الحامل لكلا الجنسين.. ومن امتلك ناصية اللغة، يستطيع أن يبحر في أي جنس أدبي آخر.. فالشعر موسيقى وانسياب، والقصة حدث وحكاية وبناء. والشفافية في طرح الفكرة وتناولها عبر صور شاعرية، وإضافة ماء الروح إليها في أي نص وفي أي جنس يحقق صفة الإبداع.
في مسيرة الحداثة، تتعلّق الكلمات حدود الدهشة، وتراوح في فضاءات الرؤى.. بين مكان ليس كالأمكنة.. وعبر زمان تضيع في زحمة أحداثه الساعات والدقائق، وتتسرب الحكاية كحبّات عقيق في خيط سبحة ثم.. تبدأ الحكاية.!
وهذه اللغة لها حدّ آخر نقيض الجمال والإيصال والشفافية عندما تستعبد الكاتب وتملك أحاسيسه، وتنسج خيوط عشق بينها وبينه، ترسم حوله خطّ حلقة يدور فيها ولا يخرج، يسبح ونسبح معه في جمال لغة.. طاحونة جمال لكنها بلا طحين.. متى استعبدت اللغة كاتبها خرج عن الفكرة، وحلق في حدائق جمال لكنها بعيدة عن فضاء العصافير المقصودة، وفضاء الفكرة، ونوايا الإيصال..
ومتى ابتعدت اللغة عن مرمى العشق في ضمير ومسيرة الكاتب تركت نتاجه يباساً لا روح فيه.
هو الميزان إذن بين لغة أخدمها وتخدمني، أحبها وتحبني، أشكّلها ولا تشكّلني، أسوقها حسب مرادي إلى نصّ أو إلى قصيدة وأسخّرها لهدف الإبداع.. عندما يصل الكاتب إلى تلك المقدرة "ولو بحساب" يكون قد ملك اللغة والأدوات كلها مرفوعة على هيكل موهبة، فيخرج النص على طبق من ذهب.
ر .. شاعرة وقاصّة.. تثبت في كل نصّ أنها تمتلك الكثير من الأدوات، والقليل من قدرة الخروج من عشق اللغة.. ليتها تقيم الميزان في مراجعة حادّة وصارمة لنصوصها، لا تستعدي اللغة لكنها تتنصل قليلاً من حالة العشق بينهما كي تضيء أمامنا حقيقة مشاعلاً في آخر كل الأنفاق المعتمة..



الأديب: عدنان كنفاني
2002



أشْعِلُ قنديلا وأمضِي ..
ومضة وجعيّة
ريتـا عـودة


البرد ُقارس.

ثمّة مرجل مُتقدّ في نهاية النفق.

في هجعةِ الليل, تُغلفني ظُلمة باسرَة كشرنقة.أبحثُ عن بُؤرَة نور .
أعثرُ على قنديل صدئ تحت سرير.أشعلُهُ. أخرجُ منَ الباب الضيّق إلى زُقاق تفوحُ منه رائحةُ عفونة.
(عبثًا نحاول أن نُعطِّرَ مزبلة ..!)

أسيرُ قُدُمًا لا ألوي على عودة..تتهدّجُ أنفاسي. أتجهمُ. أتنهدُّ .

أ ُبْصِرُ رُؤىً فاغرةً جراحها كعيون أطفال جائعين.أفتحُ عينيّ على وسعهما..

أرى...
صخرة صمّاء تتناوشها الأيدي بالشواكيش لتفتيتها إلى حجارة صغيرة..

أمّا الحقائب المدرسيّة البالية فقد تناثرت على طريق الآلام كالطيور المذبوحة.

أرى...
بعض الوجوه الطاهرة تقف خلف اكشاك حلوى تقاوم إغراء الرائحة واغراءات العيد البائس.تنادي ببراءة:
-شارون يُضاعفُ الحصار ونحنُ نُخفِضُ الأسعار -..

أسمعُ ..
جلجلة صرخة شرطي يطارد رغيف خبز طازج في يد طفل رثّ الملابس ..
يشتهي أن يُفلت من قبضة الجوع ومن لعنة الثري الذي سُرقَ رغيف خُبزه..
ومن سخط الشرطي العجوز المتفاني في نُبل أخلاقه.

اسمعُ...
مدير تحرير يُطلق وعيده في وجه محرّر أنيق يلوّث الهواء النقيّ المغلف غرفته الرحبّة: -يا أخي.. كم مرّة سنكرر نظّف يديك للأكل لا للكتابة...!-

أرى واسمع...

نواح قبيلة تتهادى بحزن خلف نعش مُراهقة رموها بالحجارة حتى الرمق الأخير. وبعد الوفاة صمّوا آذانهم عن صرخة الطبيب: -هي عذراء يا ظَلَمَة...!-

أقتربُ أكثر وأكثر من المرجل المُتقدّ .

أتعثر بزعيم. أصافح يدا ممتدّة لمعانقتي. يحتضنني فــَ.. أشعر.. بمدية حادة تختفي في حضن يده خلف ظهري. يدعوني للجلوس. يُشيرُ بغطرسة إلى كرّة أرضيّة على مائدته. يُحرّكها:

شمالا – شرقا

جنوبا- شمالا

بمزاجيّة أخطبوط.

بين الحركة والأخرى ينظر حوله ليتأكد من أن الأسلحة النوويّة في مكانها.

يعطسُ وأنفه في السماء. يكلمني بغطرسة طاووس:

-من يرضَى أن يعيش حشرة, لا يحزن حين تَدُوسُهُ الأقدام-

(لا أتكلم)..

أصلُ نهاية النفق.

ألقي القنديلَ في زاوية كهف الصّمت الفاضح.أخرج إلى النور.تتهدّجُ أنفاسي.أتجهمُ. أتنهدُّ. تطاردني رائحة عفونة قذرَة. تبللني رطوبة وحل لزج مثير للاشمئزاز.

تُراني

...........بدأتُ

..................أغرقُ

..............................؟!


قراءة في قصة "أنا جنونك"لريتا عودة بقلم الأديب عدنان كنفاني


ريتا عودة .. إبحار في تجربة القصّ- قراءة في "أنا جنونك"


ريتا شاعرة خرجت من ثوب الموازي، لتخطّ درباً رصفت أرضيته بصدق الحروف.. ونثرت في فضائه سحر
المفردات، وطوّرت تفاصيل الحدث فامتزج برحيق لغة ممتطية أجنحة سنونوات.. فاستولدت من القصيدة قصيدة..
شاعرة ملأت كلماتها بعذب موسيقا.. فأطربت دون أن تلتزم رتماً أو قافية.. بل جعلت الروح تنطق، تتبدّل على أوتار النسمات.. تارة دافئة.. وتارة باردة، لكنها كلّها صدى أنات موجعات، وزغاريد فرح، ترسم لوحة الأنثى بريشة رهيفة.. تستكين حدّ الانهيار.. وتتمرّد حد الثورة.. فتحسبها.. تتمناها تكون بين ذراعيك.. تنبض بك، وتنثر مفرداتها بين يديك.
هذه ريتا عودة التي عرفتها شاعرة..
هنا.. على عتبات إبداع جديد، تشقّّ بعنفوان المعرفة، وذات الدفق الصادق، عتمات الأحداث فتغمرها بلغة الموسيقا ذاتها. تبلّل جفاف الحزن، فيأتيك على أجنحة غادرت مداراتها اللحظة، وحملتك معها إلى عالمها القلق.
يبدؤك العنوان (أنا جنونك.! ) أليس عنواناً إشكالياً.؟ أيّ جنون هو.؟ وأيّ محرّض هو.؟ بل أيّ الجنون الجنون.؟ فتُبحر قبل أن تبحر في النص، ترسم خطوط الوعي فتداهمك الكلمات فتفشل في تركيز الحدس..
ولأنها تدرك قبل أن ترتكب جنون الكتابة أن شكوكها أوهام.. يبدأ وقع المونولوج بـ "أنا جنونك.!" وهذا الـ أنا في خطاب اللاوعي هو ذلك الآخر الساكن في كلّ واحد منا.. يبثّنا الشك، والهم، والصفاء، والقلق.. الـ أنا ترفض وتتمرد.! والآخر الحقيقي يتسلّق المفردة ويبني عليها برج وهم.. تأتي "أنا جنونك" في مبتدأ الكلام تعترف الكاتبة أنها شبح جنون قبل أن تلج بحر الكلام، وتهدم سلفاً برج الإقصاء، ورغبة الابتعاد، وبذور الفتنة.. فينتصر الرويّ..
هل هي قصّة.؟ خاطرة.؟ بوح.؟ اعتراف.؟ ألم.؟
ربما كلها في آن تحت عنوان إشكالي. وعبر مونولوج يتقن فنّ الحوار، لم يكفّ عن الخوض في فعل السؤال بين قلب ينبض بالحب، وخوف من فقد هذا الحب.. بين براءة في رجاء إخلاص ليس له حدود. ورغبة مشروعة في مطلق التملّك، وبين متاهات رعب في تسرّب هذا الرجاء.. وبين.. وبين، تتواصل الأسئلة.. ويتواصل الرفض.. ويسمو عبق الكلام. (لست الأمير الذي سيأتيني بفردة حذاء على قدّ أحلامي) يأتي الموروث ليكرس فعل التمنّي.. أليست رومانسية مسافرة إلى أقصى حدود الشفق على أجنحة عاشقة حتى النخاع.؟
ومن تراه يملك تلك الحقيقة المطلقة.؟ ومن يملك القدرة على الإقناع بلا حدود وتوطين الهدأة في قلبٍ قلق.؟ تقف الذات بعد رجفة السؤال لتقول بهمس راجف (ذابَ ثلجُهَ، فتدفّق خارج الغرفة) الثلج يذوب يصير ماء يتسرّب عبر شقوق ولا يعود إلى شكل.. لماذا إذن تعود الأسئلة.؟ ومِن "أنا جنونك.؟" (صرختُ بها ثانية إياكِ أن تصدّقي) (صرختُ ثالثة إياكِ يا مجنونة إياكِ.. إياكِ)
فهل ينتصر الجنون على الحسّ.؟ وإلى متى يواصل الجنون ركوب العجلات الضبابية.؟ ويوشك الجنون "أنا جنونك" وهو يرمي آخر سهم في وجه الحب رفع راية استسلام (بسطتُ أصفادي حول دماغها في محاولة مستبسلة للجمها عن الاستماع لصوته) محال أن يُكبّل صوت الحقيقة.. محال أن يلفظ القلب من مخر عبابه وسكن.. وعلى أنقاض المونولوج بين أناها وجنونها تهبط هادئة راسيات الأمل، وتستكين على هدأة قرار (وقعتُ أنا كورقة خريف صفراء.. وغبتُ عن الوعي)
في نقطة النهاية هذه تعيدُ الكاتبة فتح الأبواب على رؤى إشكالية كثيرة.. إذ ما معنى أن تغيب عن الوعي.؟ هل هو استسلام لحب متمكّن.؟ أم هو وجع صدمة.؟ قصّة أم خاطرة أم اعتراف أم قصيدة.؟ ربما كلها في نصّ حمل كثير تكثيف، والتقط بليونة نبض حالة مكانها في كيان، وزمانها مطلق، تخرج عن شروط القصّ لتدخل في صميم القص.. حفنة هواء في راحة يد.. وهل أصعب من الإمساك بهواء.؟
"أنا جنونك" قصة باذخة بطيوف حداثة حقيقية متكئة على عوامل تكثيف كان يمكن أن تتكثّف أكثر، وكان يمكن أن تنفتح أكثر، وكان يمكن للكاتبة أن تثريها بكثير أحداث، وكثير دفء لو أعملت فيها اهتماماً أكثر. لكنها أتت هكذا تعلن بأن روح الشِعر متى تخلّل قصة بعث في جفافها نسيمات جمال..




الأديب عدنان كنفاني
2004





أنا جنونك
قصة قصيرة للأديبة ريتا عودة



لغطٌ غير اعتيادي في الداخل ، سيّرني إليه . رأيته واقفا متكئا كتمثال من ثلج على حائط وهي ممدّة على الأريكة مقابل نافذة مطلّة على بحر وكلاهما يلوكُ الكلمات:
- هذا لا يمنع أن ..
*لستَ الأمير الذي سيأتيني بفردة حذاء على قدّ أحلامي.
- آتيك ِ بالنيل والبحر والهرم لو ...
*أنا في انتظار أمير ليس له وجود إلا في خيالي لذلك هو حتما ليس أنت...
- من انتِِ لتتعالي عليّ..!
* أنا......؟!
................................ أنا جنونـُك .



***


ذابَ ثلجه فتدفق خارج الغرفة ، غمر في طريقه الزهور فأورقتْ وجرف كلّ الحَصى والطحالب فاخضرّت الحقول.
استبدّتْ بي رغبة جامحة لتحذيرها. قفزتُ إلى رأسها ورحتُ أنصِتُ لتسارع أفكارها. استوت على عرش الوحدة وراحت تتلذذ باحتساء خمرة عشقها:
( الغبيّ ! متى يدرك أنّهُ ليسَ جملة اعتراضيّة في رواية عشقي بل هو العُنوان. الحلم لا يتكرر مرّتين وهو حلمي. هو حلمي. هو حلمي.)
تقززٌ مرير سرى في عروقي. يا لها من بائسة. يجب أن أحذرها لئلا تخور إزاء اغراءاته العبثيّة. بسرعة وسوستُ لها:
"استيقظي من أوهام الرومانسية يا صغيرة فالحبّ فكرة لا تتحقق. بذرة طريّة لكنها لا تنمو. هيّا، احصلي على اكتفائك العاطفي من ذاتك. دللّي نفسك بنفسك. أشتري لك الهدايا التي تشتهين أن يباغتك بها عاشق. اروي أنوثتك بكلمات: (يا عمري، يا عشقي ..). لا تنتظري النقاء من رجل. يا لقلبك ! بسرعة صفحتِ عن آثام حبيبك الأوّل الذي برع في اعترافاته العشقيّة لك أنّكِ سيّدة أحلامه وأنّكِ حبّه المستحيل وأنّكِ أفروديت وإنَّ وأنّ ولكنّ وليتَ ولعلّ إلى أن بدأتِ تئنين حين استيقظتِ وأنتِ في ذروة انبهارك بهِ على نفاذ صلاحيّة الحلم. يا لقلبك! أهكذا تصفحين بسهولة عن عبلى وليلى وسلمى اللاتي خرجن بغتة ًمن قبعته ، كلّ تطالب قلبه بحقها من الميراث ، كلّ لوّثت حلمك الوردي بآمالها."



***


شئ ما التصق برأسها .
* ألو ..
- يا مجنونة أحبّك ِ..
غفتْ كلماتهُ في حضن أحاسيسها كما تغفو في حضن ورقة. صرختُ من قحف رأسِها: " إياكِ أن تصدقي ..! "
استمرَ الترنيمُ الرّوحيّ :
- أنتِ لي ..
صرختُ بها ثانية : "أياكِ أن تصدّقي..!".
- "أنتِ جنوني .."
تراختْ خلاياها..
صرختُ ثالثة ً:" إيــَّاكِ..!!".
استرسلَ هو:
- " أنتِ اشتعالُ الفكرة ووهج الإبداع. أنتِ العشق والعشقُ أنتِ. أنتِ أنا وأنا أنت. أنت وأنا مسوّدةُ حبر ٍ واحد وروح واحدة. تعالي. لا تخافي . أدخلي روحي .أشعلي في كل خُطوة مصباحًا ، وفجرّي كتابة ً على جسد الحنان يا حناني. تعالي . كوني جنوني. إيّاكِ ألاّ تكوني...!"
كان يشدّ قلبَها إليهِ كالحاوي الذي يسحبُ المناديل الملونة من قبعته السحريّة ببراعة حرفيّة .
راحَ قلبُها يزقزقُ:
( تبّا لكَ. لمَ نسفتَ الأسلاكَ الشائكة، الأسوار والجنود من حول جنون الأنثى في عروقي.! أخبرني كيف سأتفنن الآن في إخماد اشتعالي.!)



***


بسطتُ أصفادي حول دماغها في محاولة مستبسلة للجمها عن الاستماع لصوته لكنّها ضغطت فجأة ً وبقوّة على صدغها. ثمَّ، وقفتْ وسارتْ باتجاه الحديقة. أوْرَقتِ الزّهورُ واخضّرَتِ الحقول.
وقعتُ أنا كورقةِ خريف صفراء في مهبّ حبّ عاصف. وغبتُ عن الوعي .



***


تمّت وبالأحرى بدأت في :

9-1-2004

الثلاثاء، 21 يوليو 2009

" يوميات غجريّة عاشقة" لريتا عودة، عرض د. حسن السوداني




ديوان يوميات غجريّة عاشقة
عرض د. حسن السوداني
ناقد مسرحي واستاذ جامعي
السويد


صدر عن مركز الحضارة العربية الديوان الثالث للشاعرة الفلسطينية ريتا عودة والذي حمل عنوان: "يوميات غجرية عاشقة"، 2001،ومضات شعرية.الشاعرة من مواليد مدينة الناصرة ولها إسهامات معروفة في مجال المقالات و القصة القصيرة وسبق أن صدر لها ديوان "ثورة على الصمت" عام 1994 و"مرايا الوهم" عام1998, وضم الديوان الحالي 137 ومضة شعرية وهي محاولة لتأسيس القصيدة المكثفة المختزلة والتي تحيلك إلى عوالم بعيدة ونائية من خلال الإيجاز البلاغي الرفيع،ففي قصيدة "حظر تجول" تقول:


تسللت بحرية
إلى مدينة أفكارك
فاستوقفني جندي عابر
على بوابة أسرارك
"! وصرخ:"هوية
وحين أدرك أني عربية
صادر أحلامي



وتحاول الشاعرة أن تؤكد على طريقة رسم الكلمات بغية توصيل روح المعنى الذي تريده فهي تقول في مفتتح الديوان :


ا ب ع ث ر
أوراقي بفوضى


وتعود لتكرر(بعثرة الحروف) أثنى عشرة مرة في قصائد أخرى كما تحاول أن ترسم شكلا للقصيدة يتناسب وهذا التوجه فهي ترسم في قصيدة منتهى الأحزان:



أعود .............
أعود ....................................
سهما في مهب الفرح ...................
أنطلق ........



ثم تقوم برسم السهم بكلمة( أنطلق) وإذا أخضعنا المتن الشعري لقصائد المجموعة إلى افتتاح عبر ومضة "همسة" وهي بمثابة المحتوى العام للومضات نكتشف انه مدخل يتوافق مع النسق الدلالي لباقي المجموعة وهي تدخلك بذات الشاعر المدينة إذ تستعير المعنى من الموروث الديني في مقاربة دلالية مناسبة (ادخلوها بسلام آمنين) إذ تقول في قصيدة "همسة":


هذي جراحي
فادخلوها آمنين



أن القصيدة المصنوعة بعناية هنا هي اكثر قوة في الاختزال والايجاز وتفتح على اتساع دلالاتها من خلال الجملة القصيرة والقصيدة هنا على قصرها تنطوي على اختصار طويل في المسافة ويتحول البيت الشعري الى باث اكثر سعة في المفهوم :



وكان ان وعدها
بحقول من قمح
وبفيروز من بحر
ولم تستقبل
إلا امواجا من قهر



أسئلة كثيرة تسكن داخل الشاعرة ويبدو أنها خيارها بعد إن انحسرت عنها الأجوبة وهي تضع كل شيء موضع الشك والوهم ليصبح كل شيء قابل للمساءلة وهنا يلعب الشك دور الشاهد على الأحداث وهي على هذا لنحو تعيد اكتشاف الأشياء مرة أخرى بصورة مغايرة تهيئك لومضة جديدة وإذا كانت طاقة المفردة كامنة فيها أولا وبمكانها داخل الشطر الشعري ثانيا وعلاقتها بالنسق الهرموني والدلالي فان المفردة هنا تتحول إلى جملة كاملة كما أن الجملة تتحول إلى مفردة في معناها وهي طريقة مغايرة في الكتابة الشعرية الحديثة والتي لا تتفق مع الكتابة الطويلة والمشحونة بالجمل كي توصل معنى بسيطا.

الشاعرة ريتا عودة في ديوانها "يوميات غجرية عاشقة"2001 ، تنطلق كسهم مفرح في محاولات تجريب أنواع جديدة من التجارب الشعرية كي تواصل مسيرتها المتألقة في سماء القصيدة الومضة وتؤكد ولادتها مع كل كتابة جديدة إذ تقول :


كلما كتبت
أولد من جديد



* د. حسن السوداني ،ناقد مسرحي واستاذ جامعي، السويد
* يوميات غجريّة عاشقة،ومضات شعريّة، ريتا عودة، اصدار مركز الحضارة في القاهرة ،2001