الأربعاء، 22 يوليو 2009

قراءة نقدية في: "محكومون بالأمل" للأديبة ريتا عودة


قراءة نقدية في: "محكومون بالأمل" للأديبة ريتا عودة


في الحقيقة لا أمتلك أدوات الناقد المتخصص ، لكن لا أشك في كوني قارئا أمتلك أدواتا قرائية أستطيع أن ألج بها إلى عوالم السرد الماتع ..
من خلال العنوان ( محكومون بالأمل ) استطيع أن ألج للنص من كونه حالة عامة لا خاصة ، رغم أن السرد يتكلم بلغة المفرد ، سؤال يتراود في ذهني ، من هم المحكومون ؟ . هؤلاء المحكومون بأمل وألم متربصون بحاكم وحكم ، قد يكون الحاكم منصفا وقد لا يكون ، وقد يكون الحكم منصفا وقد لا يكون ، والمحكومون في حالة ترقب للأمل المتأتي من الحكم والحاكم معا .
من خلال النص : اللعب على كلمتي ( الأمل ) و ( الألم ) ، كمفردتين لامستهما لعبة لغوية تسمى ( القلب ) ، من خلال قلب وضعية حرفي الميم واللام ، ومع القلب اعترى المفردتين تغير عظيم في المعنى ، فحين يطول الأمل بالنفس يتحول إلى أنقاض تتسرى ألما فيها ، الكلمات المتقاطعة التي تعبر عن مدى الفراغ ، والفراغ بأنواعه المتباينة يولد نفس الحالة القهرية مع فارق نسبي قد يكون بسيطا وقد يكون عظيما ، إلا أنني ألمس فراغا عاما يتمثل في شخصية القصة ( هشام ) ، وبانتقاله من حل الكلمات المتقاطعة التي تنقل بطلنا إلى تقاطعات روحية تتسبب في طفو صور تمثل جانبا أليما لديه ، ينتقل إلى واقع آخر يناقش فيه فراغا عميقا في بحثه عن وظائف شاغرة ، كسب لقمة العيش التي تمثل الهاجس الأكبر للبطل سدا لأعين ترمق يديه أملا في ما يشبعها وألم من الجوع التي يمتد بين عروقها ، ومن الفشل الذريع الذي يخرج به بطلنا يلقي بالصحيفة حين يشتم رائحة عفنة مصدرها الزيف الماثل بين يديه متمثلا في صحيفة .
الخروج من بوابة الزيف : النافذة التي يبحث بطلنا عنها ، وكأنها تتمثل أمامي هروبا من صراع النفس مع الذات / المجتمع / الحياة ، هروب إلى المحيط الذي يمثل الحقيقة المحضة أمام بطلنا ، الطبيعة التي تمثل امتدادا لكينونة الإنسان ، بياض الثلج ، أسراب السنونو ، والانتقال إلى العوالم الأكثر بساطة متمثلة في أطفال يلعبون بالثلج ، يبنون رجالا منه ، يصرخ بعمق أن هؤلاء هم المحكومون بالأمل ، من هم ؟ إنهم الأطفال الذين لا تعنيهم أمور تمثل الحياة بزيفها وألمها ، ليعلن انه ومن على شاكلته هم المحومون بالألم .
العودة إلى الحلم المشوب بالحسرة : ينقلنا هشام إلى عوالمه الطفولية ، لقطات سريعة تمر عبر ذاكرته الطفولية ، المدرسة .. المنزل .. الأم ، عودة إلى حالة خاصة يسترد في غفلة الجميع حياة فائتة يمحو أو تزيل ركاما من عذابات . الحدث يتماهى في الحفرة التي تمثل حالة هرب ذريع ، على امتداد جسده كانت الحفرة ، ألقى بجسده وراح يخفيه قليلا قليلا حتى اخفاه إلا راسه ، الشمس التي يحاول بطلنا استرداها وكأنها الحقيقة الغائبة ، والحفرة المتعلقة بالأرض والانتماء إليها تمثل الانسلاخ من حالة الانتظار إلى اتخاذ القرار ، فلون الجسد بلون التراب ، ولون التراب يمثل الانتماء الحقيقي ، الارتفاع حالة من السمو والخروج من الممكن إلى المفترض ، والعلو هي سمة طبيعية للنفس الإنسانية ، حالة الارتفاع تمثل الطيران ، والتحليق صفة للنفس حين يقيدها قيد أعظم ، ورغم ذلك فالارتفاع مشروط بعدم ذوبان الصمغ الذي يثبت جناحي الطائر المحلق ، والتحليق كشف للزيف الماثل وتعرية للحقيقة المفروضة فرضا . نبش الحفر ونهر الأم لبطلنا من عودته إلى عادة طالما استمتع بها لأنها تمثل النافذة المشرعة أمامه للانتقال من الألم إلى الأمل ، حتى لو كان الانتقال زائفا والنافذة وهمية إلا أنها تمثل حالة تنكشف فيها الحجب التي تستر الحقيقة . شعرت بحرف ( القاف ) ، تخيلته ، نطقت به وكررت نطقي له ، كانت لقطة استملحتها وشرعت في الغوص في ثناياها ، العقاب الماثل أمامي والعفو الماثل أمام البطل ، كلاهما عنوانان لأمنية تنتاب الجميع .
انتقال أخر إلى نافذة حقيقية لا تمثل النافذة الأولى ، وكأن الأولى عبور للماورائيات ، والثانية تمثل العودة إلى الواقع ، ورقات ثلاث ، للامل .. للألم .. ورقة ثالثة فارغة تنتظر إما أن يخط هو عليها أو أن يخط الآخر المنتظر عليها ، وتكرار يلازمني للخواء الذي ينتاب المعدة .
رجل الثلج الذي عبر امامنا في لعب الأطفال في زاوية من السرد ، يعبر أمامنا من زاوية أخرى ، في الزاوية الأولى كان مجرد رجل ثلج يعبر عن لعب أطفال محكومين بالأمل ، أما في الزاوية التي نقلنا إليها البطل كانت تعبر عن أمل تحول إلى ألم ، فهنا رجل الثلج يمثل للمحكوم بالألم ذلك العربي الذي غض طرفه عن حال أمة تعاني أيما معاناة ، يعبر عن وطن سليب فرطت فيه شعوب تتصل معه بدين ولغة وانتماء .
نهاية ساخرة ، تعلق في ذهني ألف صورة وصورة للحياة التي يعيشها أولئك المسلوبون ، حياة بائسة يتربع على عرشها أمل كسيح وألم فصيح ، ضحكة اولى على جرج وطن سليب ، ضحكة ثانية على ضياع هوية ، ضحكة ثالثة على ( رجال الثلج ) المتقوقعون في خارطة الوطن العربي ، ضحكة رابعة أضيفها إلى الضحكات الثلاث على حاكم حكم أن الحق للظالم على المظلوم .


القاص السعودي – العباس معافا
2004







محكومون بالأمل
ريتا عودة



كلمة "ألم" مكوّنة من ثلاث حروف أفقي، يقابلها كلمة "أمل" من خمس حروف عامودي. أكدحُ ذهني. اللعنة على هذي الكلمات المتقاطعة! إنّها تستحوذ على أفكاري وتستنفذ كلّ طاقاتي. تتزاحم الكلمات في رأسي تتضافر لتتقاطع صورا على صفحة الذاكرة. أحبسُ أنفاسي. أتنهدّ. أنتقلُ لصفحة الإعلانات عن وظائف شاغرة. ربما يحالفني السعدُ اليوم فأعثر على لقمة تكفيني سدّ عوز عائلة تتعلّق بعنقي كحبل المشنقة. تطاردني رائحة عفونة . ألقي بالصحيفة فوق الأرض. أعود فأتنهدّ وأبحثُ عن نافذة .
***
يستهويني منظر الثلج وهو يتساقط بخفّة كأنّ أسرابا من الطيور خلعت عنها ريشها ونثرته في الفضاء. يستهويني صخب الأطفال وهم يركضون حُفاة ً تحت الثلج دونما شكوى، يتنافسون على بناء رجال من الثلج .
هؤلاء هم المحكومون بالأمل...! نحن المحكومون بالألم ..!
تحرّكَ الحنينُ داخلي إلى مرتع الطفولة، إلى أيدٍ صغيرة تتسابق لتصطاد العصافير من أعشاشها فتزجّ بها بفرح داخل الأقفاص الصغيرة وتروح ترقبها بفضول، وشيئا فشيئا تذبل اللهفة حين تدرك أن العصافير لا تغرد إلا على شجر .
***
ألقيتُ حقيبتي المدرسيّة فوق عتبة المنزل. الباب موصد. لمحتُ والدتي وأنا في طريق العودة من المدرسة تدخل الجامع بخطوات
مُتثاقلة. لا بُدّ أن أنتهز بضع دقائق لأستردَّ الشمس في عروقي. خلعتُ حذائي وواريتُ جواربي المثقوبة في أقصى نقطة منه. طفقتُ أنبشُ حفرة على طول جسدي النحيل داخل تلال الرمل.
ببرود هبطتُ داخلها . طمرتُ جسدي حتى عنقي. الشمس في منتصف الحلم وأنا بحاجة للدفء .أغمضتُ عينيّ ورحتُ ارتفع. هكذا سأبقى في ارتفاع دوما. لا أخشى إلا أن يذوب الصمغ عن جناحيّ وأنا أقترب من الحقائق برشاقة. تمطّى ظلّ قربي وارتفع صوت ينخر ضميري:
- هشام ....؟! عدتَ لنبش الحفر ...؟
امتدّت ذراعاها نحوي لتنتشلني من مرتع أحلامي. ارتعدتُ . سقط منديلها المبرقش فوق يدي. بانت ضفيرتها الشائبة. تلوّى فستانها الأسود المطرّز بقطب فلاحيّة بالية وهي تنحني لتنتشلني من الحفرة. انحسر فمها عن أسنان متهالكة.
- يا قلبي لمَ تهوى المشاكسة ... !؟
كالمعتاد جاء حرف القاف رخيمًا مضمخا بالنبرة الفلسطينيّة التي تطرب قلبي. جحظت عيناي. تراها تعفو عنّي هذه المرّة أم ستعاقبني.؟! قالت بحنوّ وأنا انتصب كشجرة نخل في جنتها:
- يا صغيري، هيا إلى طشت الماء .
طفقتُ أتهادى بفرح أمامها كجندي مشاة ٍ في يومه الأوّل.
***
نظرتُ عبر زجاج النافذة. الشمس محتجبة منذ سنوات. سأنتهز بضع دقائق لأستردّها في عروقي. فتحتُ الباب برويّة وخرجتُ. في السماء غيوم متلبدة. في القلب ثلاث ورقات. ورقة للأمل وأخرى للألم , أمّا
الثالثة فما زالت تحمل بياضها.
رحتُ أتناول الثلج وأكدسّه كومة فوق كومة. سأبني رجلا من ثلج. هذا الذي طالما راودني في صحوي ومنامي ووهبني قصفة حبق تُعطّرُ عفونة شتاتي فتجعل للمنفى طعم وطن. أشرقت ِ الشّمسُ في عروقي. سأضع له عينين من خرز ،أذنين من خشب، وفم من صوّان. سآتيه كلما اشتدّت وطأة الغُربة على قلبي. ها هو كما دوما تخيلته، رجل من ثلج.. !
***
_ هشاااااااااااام !!
حاصرني صوتها وكأنّه الماضي المستمر. وقفتْ قربي مذهولة ً. تارة ً تتأمل رجل الثلج وأخرى تتملّى ملامح وجهي. تراها تراني مشاكسَا بعد مرور أكثر من عشرين سنة على أعراض الطفولة..؟!
انتصبَ الرعبُ ككوز من الصبّار في جوف حنجرتي. ابتسمتْ برقّة.
حاصرني حنانها من شرقي إلى شوقي:
- يا ابني ألم تكبر على اللعب بأعصابي..؟!
تحرر قلبي من قبضة الرّهبة. قهقهتْ بصخب. أصابتني العدوى.
قهقهتُ..
ههه .. على جرح وطن سليب .
هههههه... على ضياع هُوية .
ههههههههه ... على رجال من ثلج على امتداد خارطة الأوطان
العربيّة. ههههههههههههههههه.



2004

ليست هناك تعليقات: