الخميس، 23 يوليو 2009
قراءة نقدية لقصة "الضوء الأحمر" للأديبة ريتا عودة
الضوء الأحمر
أبدعت يا ريتا بالتعبير عن حالة شعب كامل وجيل بكل أفراده ؛ فكم هي مهمة تلك القضية التي أثرتها في قصتك " الضوء الأحمر " وكم عانينا منها ولا يزال يعاني منها من له حظ عاثر وأماني متفتقة لا تجد لأعقاب صوتها صدى في دنيا الوجود . . قضية جيل كامل لا من الشباب فقط بل من الشيوخ والنساء وحتى الأطفال يرون مآسي أهلهم فيتيقنون من أنهم سيعيشون المأساة نفسها وسيكابدون العناء ذاته في مستقبل أيامهم إن طال أو قصر . . . .
أسلوبك جميل ولغتك راقية وحوارك كان جيدا في القصة حيث أنه لم يكن طويلا فمعروف أن الحوار في القصة ينبغي ألا يزيد على ثلثها وقد استخدمت أسلوب السرد الذاتي فجعلت أحداث القصة تروى على لسان بطلها . . .
البطل كان تلك الفتاة البائسة التي ما هنئ عيشها وهي تبحث عن مجال شريف تأكل منه لقمتها بعرقها فما وجدت حتى أصبحت خطاها متعثرة وأقدامها واهنة ولكنها لا تزال مصرة وكم هي رائعة النهاية عندما أعلنت فيها بطلتنا التمرد عن كل القوانين وأسمعت الدنيا كلها بخطا ثابتة أنها لا تزال تملك شخصية تستطيع التمييز بين ما تريد وما لا تريد من خلالها ولها حرية الاختيار حتى وإن كانت حبيسة بين قوانين البشر ومقيدة أمام رجال الشرطة لكنها أثبتت وبكل إبداع أنها قادرة ولو حتى على الصراخ !! الذي كان وسيلتها الوحيدة لإثبات شخصيتها المتمردة أمام القدر ؛فما أروع قولها : " ..أخـَذْتُ أجـْتاز الشـّارع خُـطْـوَةً..خُطْــوَة.قَـوانـيـنُهُ لا تُـعْـجِبـُني ! لِيُسَجّل لي..غَرَامًة أُخـرى! لــــيُســــَجِلّ...اسـمي وعُـنْوَانـِي..وَرَقـَم هُويَتي.ليسُجل أنّـي امْرَأة عَرَبيّة ثَـائِرَةٌ عَلَى ظِلـــــّي...عَلَى الأقَلّ أكونُ قَد تمكنتُ منَ التعبير عنْ مَوقِفِي أنـــَا..وَلَو مـَرَّة..وَلَو مُــرّة..أخَذَ صَوْتُهُ يَصْرُخُ وَ...خُطُوَاتـِي تُعْلِـنَ عَنْ ثَوْرَتَهَا عَلى قُيود قَوانينه :
( ممنوع اجتياز الشّارع والضوء أحمر..!!!)
ربما نقص قصتك الوصف الظاهري والباطني لشخوص القصة وأهمها شخصية البطلة مع أننا قد نحاول رسم وصف باطني لهذه البطلة من خلال ما رأينا من طريقة تصرفها أمام كل عقبة أو أمام العقبة الأساس التي وقعت بها ألا وهي مشكلة الملل :
فيبدو أن هذه الإنسانة تحوي بداخلها إنسانا لا يكف عن الصراخ وعن إثارتها لفعل شيء جديد في حياتها ومفيد فهي طامحة لأن تساعد نفسها وتحمي نفسها من ألم قادم وجوع سيأكل الأخضر واليابس وهذا يؤكد أنها تملك عقلا واعيا جعلها تستجمع قواها في كل مرة بالرغم من معرفتها لما سيواجهها في طريقها من عقبات أبرزها صافرة الشرطي ومنعه لها من المرور واجتياز الشارع وتغريمها بغرامات كثيرة ، ولكنها سارت سيرا حثيثا لتصل إلى مبتغاها فكأنها تقول للشرطي : إن الملل الذي قابلته علمني ألا أمل من شيء أطمح إلى تحقيقه مهما واجهتني مشاكل وصعوبات! استخدمت الكاتبة أسلوبا يمتاز بعباراته الشفافة فهرعت إلى تشبيهات رائعة وصفت الحال وصفا بديعا مما ساعدها على إخراج قصتها بهذا الشكل الأنيق ؛ من العبارات التي جعلتني أسافر معها وأشعر برونقها قولها :
هَتَفْتُ وَأنــــا أخْفِي ابْتِسَامَةَ النّصْر خَلْفَ ضَبـــَابِ شَفَتَـــــيَّ ..
اقْتَنَصَتْ الْفَرْحَةُ غَابَاتِ أفْكَاري . . . . . .
. قَلَق.. عَصَبِيّة.. إرْهَاق.. يَأكُلُ وَقْتَهُ بَلْ وَقـــْتَ جَمِيع جَميع شَبَابنــــَا. لماذا.. تَسَاءَلْتُ.. وَأنـــَا أخْنِقَ غَصَّةَ ألَم دَاخِلَ حَلْقِي.. ألأنَّ أحْلامَهُم مَكْبُوتَة!
وهي هنا توضح قضيتها الكبرى والأصلية من قصتها فكأنها تومئ وترمز إلى قصتها الأساس بالحديث عن الملل الذي أصاب جوارحها وجعلها غير قادرة على إكمال مسيرة حياتها ؛ فلم يكن هذا هدفها وإنما استخدمت نفسها أو " البطلة " لتصل معها إلى المشكلة الأساس وهي مشكلة الجيل وأحلامه المكبوتة ويديه المكبلتين قدميه المقيدتين فلا يستطيع حراكا ولا حتى تفكيرا .
ووجد لديها خطأ نحوي واحد هذا ما وقعت عليه العين وقد أكون أغفلت سواه هو :
" لِيُسافِرُوا الِى مَنَاطِقَ عَمَل مُجَاورَة.. فَيَجدُون أنْفُسَــــهُم مَطْرودينَ مِنْ أعمَالِهـــِم بَعْدَ ضَيَاع ِ شَبـــَابِهِم "
الخطأ في : " فيجدون " وتصويبها : " فيجدوا " .
ربما خلت القصة من حل لهذه العقدة العصيبة ولكن لا يعد هذا عيبا في بناء القصة وذلك لأن هذه مشكلة جيل كامل ومجتمع بكل أفراده ولو اتفق الجيل بكامله على إيجاد حل لهذه المشكلة لما استطاعوا فكيف ستأتي الكاتبة بحل يفل قوة هذه الحال التي يعيشها جيل الشباب فالحل ليس بيديها ولا بيدي هؤلاء الشباب وإنما هذه قضية دولة تحتاج في حلها إلى أهل السلطة والحكم ، ولكن الجميل لدى كاتبتنا المبدعة أنها لم تستسلم لوضع هذه الأزمة الصعبة فأتت بحل وإن لم يكن حلا حقيقيا للأزمة ولكنه على أقل تقدير حل لمأساتها وقد تمثل هذا الحل في النهاية عندما تمردت على قوانين الشرطي وكأنها تتمرد على قوانين البشر كلهم مهما علا شأنهم وهي بذلك تعلن لنا عن عدم استسلامها لشيء لا يناسب حالها مما يؤكد قوة شخصية هذا الجيل وقدرته على خلق شيء من لا شيء ولكن أين الفرصة التي تُهيأ لهم ؟!
تغريد أبو دياب
نوفمبر2002
الضَّوْءُ الأحْمَر
- "إحْذَري ..! "
صَرَخَ الشُّرطيُّ ثُمَّ ابْتَسَمَ ابْتِسَامَة مَدْرُوسَة وَتَابَعَ:
- "لا يُمْكِنُكِ اجْتِيَازَ الشّارع والضَوء أحمَر..!".
دُهِشْتُ. كَيْفَ استَطَاعَ أنْ يَبْتَسِمَ وَلَو مَرّة.! تُرَاهُ مَلَّ مُلاحَقَتِي بغَرَامَاتِهِ الْمَالِيَّة أمْ أنَه أدْرَكَ أنّي لا أمْلكُ ثَمَنَهَا، أمْ أنَّه اقْتَنَعَ أخيرًا أنَّ الضَّوْءَ الأحمرََ لَيْسَ إلاّ قَانونه هُوَ!
* "حَسَنًا..".
هَتَفْتُ وَأنا أخْفِي راية النّصْر خَلْفَ شَفَتَيَّ. َأخَذْتُ أسْتَعِّدُ لاجْتِيَاز الشَّارع ثَانِيَةً، لكِنّهُ لَمْ يَتَحَرَكْ. لَمْ يَسْتَعّدَ للّحَاقَ بي..! أصْبَحَ يَعْرفُنِي جَيِّدًا. يَعْرفُ أنِّي أرْفُضُ أنْ أطِيعَ أوَامِرَهُ وَيَظُنُ ذلِكَ لِكَوْنِهِ رَجُلا.
لِكَي أسْتَفِزَّ غَضَبَهُ قَرَرْتُ ألاّ أعْبُرَ الشّارع. قَرَرْتُ أنْ أصْلِبَ نَظَرَاتِهِ فَوْقَ خُطُوَاتِي. سَتَعْبُر.. لَنْ تَعْبُر..!
بَدَأتُ أبْحَثُ عَنْ أيّ شَيء حَوْلِي. لاحَقَنِي صَوْتُ امْرَأةٍ تُؤَكِّدُ على الهاتف: "لا تَتَأخَّر..".
إرْتَفَعَ صَوْتُ شَابٍ مِنْ خَلْفِي" تفضلي، دَوْرُكِ". تَرَدَّدْتُ، فهتفَ :"ألا تُريدينَ اسْتِعْمَالَهُ..؟!".. تَمَلَكَتْنِي نَوْبَةُ ارْتِبَاك. أُريدُ أنْ أتَحَدَثَ إلَى أيّ كَانَ لكِّنْ مَنْ يَسْمَع..! فَجْأة، اقْتَنَصَتْ الْفَرْحَةُ غَابَاتِ أفْكَاري!.. لماذا لا أطْلبُ أيّ أرقَام فَأتَحَدَثُ إلَى أيّ كَانَ..! أجبتُ بِكِبْريَاء:"نَعَمْ سَأتَحَدَثُ فَهَلْ تُمَانِع..!". لَمْ يَكْتَرثْ لِقَوْلِ لا أو حَتَّى نَعَم. فَرَاغ. مُجَرَدُ فَرَاغ يَفْصِلُ بَيْنَ الْبَشَر. مُجَرَدُ مَسَافَات لا يُمْكِنُ لإنْسَان اجْتِيَازها. إبتعدَ ربما ليَبْحَثَ عَنْ هَاتِفٍ آخَر فِي مَكَان آخَر. لا يُمْكِنهُ الانْتِظَار وَلَو لَحْظَة. قَلَق.. عَصَبِيّة.. إرْهَاق.. يَأكُلُ وَقْتَهُ بَلْ وَقـْتَ جَمِيع جَميع شَبَابنا. لماذا..؟ تَسَاءَلْتُ وَأنَا أخْنِقَ غَصَّةَ ألَم دَاخِلَ حَلْقِي. ألأنَّ أحْلامَهُم مَكْبُوتَة..!
نَظَرَ إلَى الضّوءِ بــِإمْعَانٍ، رُبَمَا لِيَتَأكَدَ أنَّه لَيْسَ أحْمَرًا . ثَمَّ، اجْتَازَ الشّارع كَالْبَرْق وَتَرَكَنِي وَحْدي أبْحَثُ عَنْ شَيء مَا. قَبَضْتُ عَلَى سَمَاعَةِ الْهَاتِف ِ وَأخَذَتْ أصَابِعِي الْنَحِيلَة تَتَحَرَكُ بِنَهَم فَوقَ الأرْقَام. زَقْزَقَ قَلْبِي. إرْتَفَعَ صَوْتُ رَجُل "مـا" يَهْمِسُ بِكَسَل ٍ :"ألووو". بَدَا لِي مِنْ رَائِحَةِ عَرَقِهِ عَبْرَ الْهَاتِفِ أنّهُ أفاقَ من حلم.
*" مَنْ..؟! ".
تَسَاءَلْتُ بِلَهْفَة. فَضَحِكَ بِعَصَبِيّة وَهَتَفَ:
- " أفْتَرضُ أنّ مَنْ يَطلبُ رَقْمًا يُعَرّفُ عَلَى نَفْسِهِ لا العَكْس!! "
* " نَعَم، ولكِنّ بِإمْكَانِي تَلْفِيق أيّ اسْم لَكَ فَهذا لَيْسَ جَوْهَرَ الْمَوضُوع. "
قالَ وَهُوَ يَتَثاءَب:
- "مَا هُوَ إذَنْ الْمَوضوع..!؟... تُعَاكِسينَنِي...!"
* "أنـَا لا أعْرفُ مَنْ أنْتَ.."
-"إذن ، عُذْرًا.. سأقْطَعُ الْمُكَالَمَة."
َصَرَخْتُ مُتَوَسِلَةً:
* " لا. أر ْجُــــــو كَ...! ".
صَمْتُهُ الْمُفَاجىء أيقَظَ عَاصِفَةً مَا دَاخِلَ آبَاري فَبَدَأتُ أرَدّدُ بِتَوَسُل:
• " ألـُو.. ألـــُو..."
- " حَسَنًا. حَسَـنًا. قُولِي مَا عِنْدَكِ...".
هَمَسَ وَصَوْتُهُ يَفْقِدُ لونه وَرَائِحَة عَرَقِهِ تَتَمَلَكُني مِنْ جَديد. أدْرَكْتُ أنّهُ يَنْتَظِرُ فَفَرحْتُ لأنّي سَأتَمَكَنُ أخيرًا مِنَ التّعْبير عَنْ مَخَاوفي فَقُلْتُ بحرقة:
* "إنّهُ الْمـــَلَلُ!!"..
- "مــــــــــــاذا..!؟".
تَسَاءَلَ مُنْدَهِشًا..
فَنـُحـْتُ:
* "الْمَلَلُ عَدُوّي!!"..
انتظَرْتُ صَوْتَهُ يُضيءُ عَتْمَةَ حَوَاسِي. انْتَظَرْتُ رَائِحَةَ عَرَقِهِ تُخَدِّرُ صَمْتِي. انْتَظَرْتُ صَرْخَةً كَصَرَخَاتِ الشّرطِيّ تَشْتـِمُنِـي. انْــــتَظَرْتُ.. انــــْتَظَرْتُ.. لكنّ الصَّمْتَ اقْتَنَصَ شفتيهِ. يَبْدُو أنّهُ نَهَضَ عَن السّرير فَقَدْ سَمِعْتُ حَرَكَة. وَأخيرًا قالَ:
- " إشْتَغِلِي ..".
أحْسَسْتُ أنّ الْجُرْحَ قد عثر على الخِنْجَرَ الَّذي طَعَنَهُ فَقُلْـتُ:
* "لا أجِدُ شُغْلاً".
- "لمَ..!"
* "بــــِسَبَــــبِ "..
.. تَرَدَدْتُ ثُمّ ألقيتُ حجرَ النردِ:
* "الْبَطــــَالَة"
- "الْبَطـــــَالَــــــة..؟!!"
* "نَعَم . أبْحَثُ عَنْ عَمَل ٍدُونَ جَدْوَى..!".
وَتَمْتَمْتُ بإعْيَاء:
وَهُنالكَ رجالٌ كالصّخور يسْتَيْقِظُونَ كالطّيُور مَعَ الْفَجر لِيُسافِرُوا إلِى مَنَاطِقَ عَمَل مُجَاورَة فَيَجدُون أنْفُسَـهُم مَطْرودينَ مِنْ أعمَالِهـِم بَعْدَ ضَيَاع ِ شَبَابِهِم فَتَضيع كَرَامتهم بصّمت. لا يبكون ولا يصرخون، بَلْ يَصْرخ أطفالهم جوعـًا، فماذا بـِامْكَاني أنا أنْ أفْعَل..!".
تَنَهَدَ ذلكَ الرّجُل. فَكَرَ. ثمّ ، َتمتمَ:
- " استَخْدمِي شَهَادَاتكِ للبَحْثِ عَنْ عَمَل."
* "لا أمْلكُ شَهَادَة" .
-"لماذا..؟!".
تَسَاءَلَ بلَهْفَة..
فَقُلْتُ بِمَرَارَة:
* " مَنْ يَدْفَع لِي ثَمَن الأقْسَاط الجامعيّة ؟! أتَظُنُّ أنَّ الْعِلْمَ لَنـَا..! نَحْنُ في نَظَرهِم دُون مُسْتَوَى الالْتِحَاق بالجامِعَاتِ. نَحْنُ عُمَالُ نَظَافـَة، لا غَيْر. الجامعات لأبنائهم هم، وحتى لو حاولنا الالتحاق بجامعاتهم , يضعون ألف عثرة في طريقنا .." ..
خفت صَوْتي وأنـَا أعلن:
* " كَمْ تَمَنَيْتُ لَوْ ألْتَحِقَ بـــِإحْداهَا....!!!!"
- "إذَنْ تَزَوَجِي ثريّا كغيرك من الفتيات" ..
* "لا يُمْكِن أنْ أكُونَ تُحْفَةً فِي بَيْتِ الّذي يَدْفَعُ أكْثَر"
-"وَ إذَنْ...!؟"
هَمَسْتُ بإرهَاق:
*"لَمْ يَبْقَ إلاّ الْمَلَل. لَمْ يَبْقَ إلاّ حَكَايا الجَدّات
عَنْ العَريس ِ الْمُنْتَظَر. لَمْ يَبْقَ إلاّ أحْلام الشُّيوخ ببُطُولَةِ الأجداد. لَمْ يَبْقَ إلاّ صَرَخَات النِّسَاءِ عَلَى أطْفَالِهِنّ حينَ تَنْتَهِي مُهمَّةُ تَنْظيف البيت فيطول انتظار عودة الزوج ويَسُود المَلَلُ حين لا يَجِدْنَ لآمَالِهِنّ مَنْفَذًا إلاّ الأحلام المستحيلة..!! أمّا أنا فَأريدُ أنْ أحيَا بكرامة، أشْعُرَ أنّي كِيَان قَادِرَة عَلَى الْعَطاء. لكّنْ، حتّى العَطاء هنا مُقَيَّد.
صَمَّتُّ. فَأردفَ بأسَى:
- " آسِفْ لأنّي لا أمْلِكُ حَلاً فَكُلّنا نتجمر في ذات المرجل".
سَألْتـُهُ بلَهْفَة:
* " ماذا تَعْمَلُ.. ؟! "
- " أنَا...!؟".
* " نعَم أنتَ... "
كَرضيع فَقَدَ ثديّ أ ُمّه ناحَ:
-"حارس لَيْلي"
خلته يمسح دمعة بللت وجنته. تابعَ بصرامة:
- " يجب أن أعودَ إلى النّوم كي لا أ ُطْرَدُ من العملِ ليلاً فَإلى لقاء." بَدأ فورا نقيقُ الهاتف يُعْلِنُ عن انقطاع المكالمة.
ألحّت عليّ هواجسي بسؤال:
تُرَى، هل عانى هذا الرّجُل يومًا من مُلاحَقَة الشّرطي..؟! هل مَلّ هو أيضا صرَخاته وشتَائمهُ ولعنتهُ أنّنا أجساد مُتحركّة.. دُمَى.! .
سقطتْ سمَّاعةُ الهاتف من يدي. سقطتْ خيبة ٌما داخل آبار أعماقي.
هَجَرْتُ عواءَ الهَاتف وأخذتُ بنزق أبحثُ عن ذلك الشّرطي. عن عينيه الزّرقاوَين وِشعره الأشقر. ألا يعاني ذلك الشّرطي من الملل..؟!
ألا يخشى هو أيضا التهديد بالطّرد من العمل.؟!..ألا يخاف شبحَ الجوع ..؟! البطالة..؟! ألا يملّ تسجيل الغرامات للمارّة..؟! ألا يملّ ملاحقة عيونهم وترقبّ خطواتهِم..؟! ثُمّ ما هو راتب هذا الشّرطي..؟! أيكفيه أن يتنفس .. يَحلُم .. يعلن لنفسه ولغيره بكبرياء أنّه حيٌّ ....!؟ ألا يُؤرقُ ساعاتِهِ الخوفُ من المَجهول ، مِنَ فجر لا يجد فيه ما يُخْمِدُ فيه فَحيحَ الجوع في أحشاء أطفاله.ألا يخاف..! أم أنَّهُ لا يُطْرَد لأنَّه في هذا الحيّ ممنوع ترْك خطوات المسحوقين دون مُراقبة، دون حصار الغَرَامات الماليّة وسياط صرخات الأسياد.
***
وَجـَدْتُهُ. عَلَى الْرَصيفِ الآخَر كانَ يتلوى. ركضتُ نحوه .
قد آن الأوان للغزالة أن تباغتَ الأسد . عِنْدَمَا تَأكـَدْتُ أنّهُ يراني
أخذتُ أجتاز الشـّارع خطوة.. خطوة.
قوانينه لا تروق لي .
ليسجّل لي غرامة أخرى.
ليسُجل أنّي ثائرة على ظِلّي.
يكفيني فخرا أن أكون قد تمكنتُ من التعبير عن موقف ٍما ولو مرَّة.
***
أخذَ صوتُهُ يُلاحقني كالسياط وَخُطُوَاتِي تُعْلِنَ ثَوْرَتها عَلى قَيوده:
- ممنوع اجتياز الشّارع والضوء أحمر..!
1984
ليست هناك تعليقات:
لا يسمح بالتعليقات الجديدة.