الأربعاء، 22 يوليو 2009

قراءة في: " أشعل قنديلا وأمضي" لريتا عودة بقلم الأديب عدنان كنفاني


صديقتي.. هو النفق..!؟

ريتا عودة في قصة (أشْعِلُ قنديلا وأمضِي..) أشعلتْ أمامنا القنديل.! فكشف عن وجوهنا القبيحة.. جَلَدتنا، أوجعتنا، حرقتنا، شنقتنا.. ثم مضت.. فهل من أثر.؟ (ثمّة مرجل مُتقدّ في نهاية النفق.!)
هكذا تبدؤنا الحقيقة، تلقي إلينا بطوق نجاة، نحسبه سينقذنا من سواد ليل، إلى نور صباح.. فتتماهى حواسّنا بين خوف وسط ظلام محسوس، وفرحة انتظار فرج من مرجل يفور أضواءً في نهاية النفق.. وعبر هذا النفق نقلّب على جنبات الوجد كل صنوف العذاب والقهر والإذلال..
أيّ وجع هذا يبتعد عميقاً في الأسى، فيردد العذاب القاهر غناءً على أوتار لغةٍ في رحلة عبر ذواتنا وواقعنا وحالنا إلى مجهول..؟
(أبحثُ عن بُؤرَة نور.!)
هو فعل التصميم الداخل في نسيج الروح.. هو الأمل الذي لن يتوقف حلمنا في الإمساك به. وهي "الكاتبة" مثلنا تنتظر وتبحث عن بوّابة الخلاص.
(أخرجُ منَ الباب الضيّق إلى.؟)
ٍ إلى أين الخروج.؟ وإنت في مضائق النفق ما زلت تتقلبين على صفائح التهمات والقهر.؟ (أعثرُ على قنديل صدئ تحت سرير.. أشعلُهُ.!)
ثم ماذا أيتها الموجوعة، تراك تغني فرحك باللقيا.؟ ولو أشعلت القنديل.. هل من خلاص.؟
(تفوحُ منه رائحةُ عفونة.. عبثًا نحاول أن نُعطِّرَ مزبلة..!)
رباه.. هذا إذن.؟ تتلاحق الحروف تنصُبُ أمامنا المشانق، وتعلّق رقابنا.. نحن.. أجل نحن أولئك المتعمّدين بغسل الشياطين.. نحن الراكدون على قشرة ماء في مستنقع ضحل.. نحن الغائبون في البحث عن ترف مَعِدَة، وترف جسد، ورغبات مجنونة لن تنتهي.. (البرد ُقارس... أسيرُ قُدُمًا تتهدّجُ أنفاسي.. أتجهمُ.. أتنهدُّ.. أُبْصِرُ رُؤىً فاغرةً أطفال جائعين.. صخرة صمّاء.. حقائب مدرسيّة بالية.. طيور مذبوحة)
تواصل التقطيع في أوصلنا وفي أوصال النص.. تبدأ بجملة فعل تحسب أنها رويّ جديد، ثم تدرك أنها جدول صغير يجري بتؤدة إلى مستقرّ، ثم سريعاً يعود إلى قلب النفق، قلب السرب. ويدعم تواصل السرد. هنا.. في أسلوب القطع هذا.؟ في تقطيع وبتر نهاية جملة وبداية جملة. أقول: هو فنّ حداثي متطوّر وجميل يشتغل على التعرية دون وجل، تعرية الذات والآخر، والإفصاح عن الصحيح من قلب الغريب ولا غبار، وله نكهة جمال لو قرأته عبر نص أو نصين أو ثلاثة نصوص للكاتبة.!
لكن أن يتكرر مرة بعد مرة أخاف أن يصبح نهج طريق، وهذه هنة أرجو أن تنتبه لها الأديبة فهي تملك الأدوات وعليها أن تشكل النص على كثير مذاهب..
("شرطي يطارد رغيف خبز في يد طفل" "نظّف يديك للأكل لا للكتابة.!" "هي عذراء يا ظَلَمَة.!")
يختلط الخاص بالعام، السياسة بالإنسان.. الوطن بالمجتمع، هزيمة الذات وهزيمة الوطن.. والنفق يعجّ بصور مرعبة، كأنها أنياب مفترسة لا تغتالنا فقط.! بل تسخر منا..
ويتواصل الذبح والرفض والتدليل المفزع إلى مواطن هي في نسيج كل أمر أخذنا إلى القاع..
("من يرضَى أن يعيش حشرة, لا يحزن حين تَدُوسُهُ الأقدام")
خلاصة الكلام جملة.. تختصر كل المسافات وتغرقنا في متاهات سؤال.. والنفق مظلم.. والمرجل في آخره ينتظر إطلالة الحالمة..
(أصلُ نهاية النفق. ألقي القنديلَ وأخرج إلى النور.!)
وقفة في وهج النور وغليان المرجل وفسحة الخلاص.. رباه.. هل هي النجاة.؟ (تتهدّجُ أنفاسي.. أتجهمُ.. أتنهدُّ.. تُراني بدأتُ أغرقُ..؟!
أي خلاص هذا والوجع يبدأ.. الآن.!
أشعَلتْ قنديلاً، خَرَجت من النفق، ألقت بالقنديل لتستقبل النور الأبهى.. فجأة تكتشف وتصرخ في وجوهنا.. لا.. ليس من مرجل، وليس من نور ولا مشعل.. كل شيء خرافة.. الآن نبدأ الغرق.!؟
وتتركنا نحن بعد أن وضعت أمامنا المفاتيح من مضادّات العبر لنقول.. النجاة في أن نقفز فوق كل السواد، أن نعلن من دواخلنا بالقول والفعل والتصميم وعبر مساءلة الثواب والعقاب.. أن لا خروج إلى النور الحقيقي من النفق إلى العالم المشرق إلا من فرجة الخروج من ظلمات الذات..
حروف نزقة تتلاحق بجنون لكنه الجنون الصاخب الذي يستلهم من وجع الروح خطواته النارية الصارخة الموجوعة المذبوحة.. تقطر دماً كي نعبر في آخر رفرفة ذبحة الألم إلى حديقة من عطر. فتولد القصيدة من رحم الكلمات، وترتدي القصة رداء الشعر، وتتداخل الأجناس تعلن عن ولادة حداثة محمولة على أجنحة اللغة.
وأخرج من فكرة النص إلى شاطئ آخر بعيداً عن نكهة الألم لأخاطب فن الكتابة وأتساءل قرأنا ر. الشاعرة.. فهل يستطيع.. الشاعر أن يصبح قاصّاً..؟ وهل يستطيع القاص أن يصبح شاعراً.؟ وهل يمكن الجمع "في الكتابة" بين جنسين أدبيين يحمل كل جنس شروطاً تختلف عن الجنس الآخر.؟ ولو استطاع أن يسير الكاتب على المسارين فهل يكون الإبداع في جنس على حساب جنس.؟ أم يتفوّق بكليهما.؟ أم العكس.؟ وإلى أي مدى يحقق وجوده وعلامته على مسرح المشهد الثقافي.؟
هي أسئلة وربما إشكالية.. ولا أتصوّرها محاولات استعداء بين جنس أدبي وجنس آخر، ولو تحقق النجاح في سلوك الجنسين لتحقق للكاتب المزيد من الإبداع. فهل يحق لنا أن نتساءل عن الأدوات التي يمكن لو امتلكها الكاتب تأخذه إلى ذلك النجاح.؟ أزعم أن اللغة هي الحامل لكلا الجنسين.. ومن امتلك ناصية اللغة، يستطيع أن يبحر في أي جنس أدبي آخر.. فالشعر موسيقى وانسياب، والقصة حدث وحكاية وبناء. والشفافية في طرح الفكرة وتناولها عبر صور شاعرية، وإضافة ماء الروح إليها في أي نص وفي أي جنس يحقق صفة الإبداع.
في مسيرة الحداثة، تتعلّق الكلمات حدود الدهشة، وتراوح في فضاءات الرؤى.. بين مكان ليس كالأمكنة.. وعبر زمان تضيع في زحمة أحداثه الساعات والدقائق، وتتسرب الحكاية كحبّات عقيق في خيط سبحة ثم.. تبدأ الحكاية.!
وهذه اللغة لها حدّ آخر نقيض الجمال والإيصال والشفافية عندما تستعبد الكاتب وتملك أحاسيسه، وتنسج خيوط عشق بينها وبينه، ترسم حوله خطّ حلقة يدور فيها ولا يخرج، يسبح ونسبح معه في جمال لغة.. طاحونة جمال لكنها بلا طحين.. متى استعبدت اللغة كاتبها خرج عن الفكرة، وحلق في حدائق جمال لكنها بعيدة عن فضاء العصافير المقصودة، وفضاء الفكرة، ونوايا الإيصال..
ومتى ابتعدت اللغة عن مرمى العشق في ضمير ومسيرة الكاتب تركت نتاجه يباساً لا روح فيه.
هو الميزان إذن بين لغة أخدمها وتخدمني، أحبها وتحبني، أشكّلها ولا تشكّلني، أسوقها حسب مرادي إلى نصّ أو إلى قصيدة وأسخّرها لهدف الإبداع.. عندما يصل الكاتب إلى تلك المقدرة "ولو بحساب" يكون قد ملك اللغة والأدوات كلها مرفوعة على هيكل موهبة، فيخرج النص على طبق من ذهب.
ر .. شاعرة وقاصّة.. تثبت في كل نصّ أنها تمتلك الكثير من الأدوات، والقليل من قدرة الخروج من عشق اللغة.. ليتها تقيم الميزان في مراجعة حادّة وصارمة لنصوصها، لا تستعدي اللغة لكنها تتنصل قليلاً من حالة العشق بينهما كي تضيء أمامنا حقيقة مشاعلاً في آخر كل الأنفاق المعتمة..



الأديب: عدنان كنفاني
2002



أشْعِلُ قنديلا وأمضِي ..
ومضة وجعيّة
ريتـا عـودة


البرد ُقارس.

ثمّة مرجل مُتقدّ في نهاية النفق.

في هجعةِ الليل, تُغلفني ظُلمة باسرَة كشرنقة.أبحثُ عن بُؤرَة نور .
أعثرُ على قنديل صدئ تحت سرير.أشعلُهُ. أخرجُ منَ الباب الضيّق إلى زُقاق تفوحُ منه رائحةُ عفونة.
(عبثًا نحاول أن نُعطِّرَ مزبلة ..!)

أسيرُ قُدُمًا لا ألوي على عودة..تتهدّجُ أنفاسي. أتجهمُ. أتنهدُّ .

أ ُبْصِرُ رُؤىً فاغرةً جراحها كعيون أطفال جائعين.أفتحُ عينيّ على وسعهما..

أرى...
صخرة صمّاء تتناوشها الأيدي بالشواكيش لتفتيتها إلى حجارة صغيرة..

أمّا الحقائب المدرسيّة البالية فقد تناثرت على طريق الآلام كالطيور المذبوحة.

أرى...
بعض الوجوه الطاهرة تقف خلف اكشاك حلوى تقاوم إغراء الرائحة واغراءات العيد البائس.تنادي ببراءة:
-شارون يُضاعفُ الحصار ونحنُ نُخفِضُ الأسعار -..

أسمعُ ..
جلجلة صرخة شرطي يطارد رغيف خبز طازج في يد طفل رثّ الملابس ..
يشتهي أن يُفلت من قبضة الجوع ومن لعنة الثري الذي سُرقَ رغيف خُبزه..
ومن سخط الشرطي العجوز المتفاني في نُبل أخلاقه.

اسمعُ...
مدير تحرير يُطلق وعيده في وجه محرّر أنيق يلوّث الهواء النقيّ المغلف غرفته الرحبّة: -يا أخي.. كم مرّة سنكرر نظّف يديك للأكل لا للكتابة...!-

أرى واسمع...

نواح قبيلة تتهادى بحزن خلف نعش مُراهقة رموها بالحجارة حتى الرمق الأخير. وبعد الوفاة صمّوا آذانهم عن صرخة الطبيب: -هي عذراء يا ظَلَمَة...!-

أقتربُ أكثر وأكثر من المرجل المُتقدّ .

أتعثر بزعيم. أصافح يدا ممتدّة لمعانقتي. يحتضنني فــَ.. أشعر.. بمدية حادة تختفي في حضن يده خلف ظهري. يدعوني للجلوس. يُشيرُ بغطرسة إلى كرّة أرضيّة على مائدته. يُحرّكها:

شمالا – شرقا

جنوبا- شمالا

بمزاجيّة أخطبوط.

بين الحركة والأخرى ينظر حوله ليتأكد من أن الأسلحة النوويّة في مكانها.

يعطسُ وأنفه في السماء. يكلمني بغطرسة طاووس:

-من يرضَى أن يعيش حشرة, لا يحزن حين تَدُوسُهُ الأقدام-

(لا أتكلم)..

أصلُ نهاية النفق.

ألقي القنديلَ في زاوية كهف الصّمت الفاضح.أخرج إلى النور.تتهدّجُ أنفاسي.أتجهمُ. أتنهدُّ. تطاردني رائحة عفونة قذرَة. تبللني رطوبة وحل لزج مثير للاشمئزاز.

تُراني

...........بدأتُ

..................أغرقُ

..............................؟!


ليست هناك تعليقات: