ريتا عودة تبحر بنا على زورق حلم إلى ألف حلم- قراءة في: "الحلم الأخير"
هل هو الحلم الأخير.!؟
طفولة تلك التي تتعشق طائرة من ورق.. أم تراها براءة الحلم..؟ "أمـُدّ يدّي النحيلة خلف الوسادة لآتي كما الحاوي بطائرة ورقيّة لونّتها بالأحمر والأبيض والأسود والأخضر."
بين ومضة الحقيقة، ورشاقة الإغفاءة، يغوص الحلم، ويغوص بنا أكثر وأكثر، فنمسك عبثاً بوطن يتسرب كما تتسرب حفنة رمال من كفّ طفل.. وفي كل مرة نصحو على خيط يفلت. ويكرّ شريط الصور، وتتدفق الحكايات على موجة لغة مشغولة بخيوط من فضّة، لها الرنين الموجع، ومنها البريق المأمول.
تأخذنا ر. إلى لا مكان لنجد أننا في كل الأمكنة الساكنة في الذاكرة. ننطلق من ركن ليس له في قواميس اللغات اسم، بل مجموعة دلالات مرعبة تختصرها حروف.. حروف فقط تقيم "مخيماً" فيغدو المكان الأثير.. ويصبح سقف الصراع الغريب أن تحافظ على مخيم، وطائرة من ورق تحمل الوطن وتستحم في فضائه.
مخيم مركون في أرض عراء، وطفل يحلم، وخيط يرقص على وقع قهر.. واغتصاب مقيت..! تعبر بنا ر. فسحة الزمان، لنجد أننا في كل الأزمنة نواصل الغوص إلى لا قرار. نركض للنجاة، ونركض لنقتل الوحش، ونركض كي يعلو الهتاف، نركض كي ترفرف الرايات، ونركض كي نخلي مكاناً لصيحات الشعارات.. ونركض كي ننسى الجوع..
"بالروح بالدم نفديك يا...."
ثم.؟ لم يعد من ثم.. تعلن الغابة شريعتها، ويأتي القوي تلو القوي ليقيم مجزرة الاغتصاب.
يغتصبون جرحي وطائرة من ورق.. في سكون ألوانها براءة أمّة كل ذنبها أنها تحاول أن تمسك الخيط.
حتى هذا القليل تغتصبه عورات الغرباء..
ويلج الألم عميقاً أكثر عندما ينصر ذلك الغريب أنا الآخر الذي يحمل وجهي ولغتي وتاريخي.
ونواصل عجن أمنياتنا بين طيّات ورق ملوّن "طائرة"، نربطها بخيط كي لا تخرج من ذواتنا، أو تأخذنا معها، ثم نطلقها إلى الريح تهدهدها برقّة وتأخذها إلى حيث نتمنى أن نكون.. نمتطي جناحيها ونبحر إلى عالم آخر ليس له وجود إلا في شفيف الحلم. "أصعدُ إلى القمة ككل يوم وأنا أحلم بتحرير الطائرة التي يربطني بها ذلك الحبل الرفيع .."
نركض.. مع الريح وعكس الريح كي ننجو من الرياح العاتية، ولا يربطنا بهذه السهول والسفوح غير ذيل خيط. لو أفلت من بين أصابعنا سنبدأ لا محالة رحلة مطاردة بين أمل كان على حدّ الملمس وبين طائرة ذاهبة إلى غياب..
أيها المخيم.. هل تنمو بين سقوفك الهزيلة أحلامنا الكبيرة.؟
وكيف ترضى زوار يبك المسحوقة جوعنا.؟
"درس التاريخ كان صعبا للغاية اليوم.!"
تراه التاريخ هذا الظالم.؟ أم من يكتب التاريخ.؟ أم تراها تلك الطائرة المشرعة إلى ضياع.؟
"آآآآه يــَمـــّا..!"
موجوع أنا مثلكِ، كلنا نركض وراء الرغيف والخيط والألوان.. والحب.!
كلنا ينحني ليلتقط حجر..
"سيرفعون اليوم صلاة ً على روح الغائب.!"
فهل يكون هو الحلم الأخير حقاً.؟
وهناك في البعيد روح تحلم بطائرة من ورق على جناحيها هدأة حلم وعنفوان مصير ولا سبيل غير البقاء.. لا سبيل غير البقاء..
ر. ع .. بخطىً واثقة تلجين عالم الحداثة، عبر تشكيلات لغوية نبيلة، وومضات تشي بكل وضوح بالمعنى والقيمة والرمز والهدف.. كلها خلاصة كلمة تصل شفّافة إلى كل من يعيش هم الراهن.
خطواتك ثابتة فخذينا إلى عالمك القريب جداً.. جداً من فورة النزيف.
وصلّي ما استطعت على أرواح الغائبين.
الأديب عدنان كنفاني
2002
الحلم الأخيـر
ريتا عودة
ألهثُ فوق السهول خلف طائرتي الورقية، والريح عاتية. أرى الخيط المتدلي منها، كأنه أمل ضرير. أركضُ عكس الريح.
- بالروح بالدم نفديك يا..
يتعالى الهتاف من حولي وأنا لا أبالي. لا أحلم إلا باستعادة تلك الطائرة. ألقي حقيبتي المهترئة فوق حصيرة القش وأمدّ يدي النحيلة خلف الوسادة لآتي بطائرة ورقية لوّنتها بالأحمر والأبيض والأسود والأخضر.
أغادر المخيم وأنا أتأبطها، أخفيها بمهارة عن العيون وكأنّها حلم أخشى أن يسرقه مني أحد.
- كل يوم عدس؟!
هكذا اعتدت أن أتبرم وأتلوى كلما عدت ظهراً إلى حضن أمي. ما بالي اليوم أرى أن العدس نعمة بمقدورها أن تخمد هذا الجوع الكافر الذي أخذ ينهش أمعائي..؟! ما من طعام اليوم. أخمد جوعك بالجري في الحقول يا خالد. قالت أميّ بأسى. فغادرت بسرعة وبدأت بصعود الجبل.
**
رميتُ الصخرة خلفي وأنا أصعد إلى القمة، أحلم بتحرير الطائرة التي يربطني بها ذلك الحبل الرفيع وككل يوم حين أفلت خيطها المربوط الى كف يدي، تنفلت من قبضة القلب كل أوجاعي الدفينة. مرّت ساعة. زالَ ألمُ أحشائي. الآن بإمكاني أن أبدأ رحلة العودة.
ولد مفتول العضلات إعترض طريقي. إرتمي ظله فوق ظلي.
- هذه لي.
قال بسخرية فانفرجتْ شفتاه عن أنياب صفراء. تشبثتُ بطائرتي. واريتها خلف ظهري وأنا أهتف:
* هذه طائرتي أنا..!
- بل هي لي، هاتها وإلا..!!
اقترب مني وبدأ يلوي يدي يحاول أن يغتصب الطائرة لكنني استجمعت كلّ ما املك من عزيمة لمقاومة غطرسته. لمحتُ حجراً صغيراً على الأرض فانحنيتُ أتناوله. مرّ بنا شاب أنيق. استبشرتُ به خيراً. فصل بيننا. ثم وقف كالمسمار المعقوف، رأسه في اتجاه الآخر. هتف من عليائه:
- أعطه الطائرة يا..! ألا يكفي أنك سرقتها منه، تريد أيضاً أن تضربه بحجر.؟!
أفلتُ الطائرة من يدي. استجمعتُ كل ما أوتيت من عزيمة وضربته بالحجر. بدأ ينزف. انشغلا عنّي. أخذتُ أعدو خلف طائرتي بجنون لأستعيدها وكأني سأستعيد حلمي الأخير.
**
- بالروح بالدّم نفديك يا..
تجمهر المارون من حولي. تملصتُ من دوامة الطنين دون أن تغفل عيناي لحظة عن طائرتي. خفتتْ أصواتُ المتظاهرين وهم يسيرون باتجاه المقابر. بدأتُ أسيرُ باتجاه النهّر، أقتربُ من الحبل. قفزتُ نحوه بكلّ ما أوتيتُ من قوّة. أخيراً، قبضتُ عليه. جذبتُ الطائرة إلى قبضة يدي. تنهدتُ. أغمضتُ عينيّ. أخذتُ نفسًا عميقًا. زفرتُ الهواء من رئتي. أستكنتُ. مسحتُ الوحل عن ثيابي. شرعتُ بالبحث عن حقيبتي لئلا أنال اليوم عقاباً من والدتي. آ آ آ ه يمّا..!! درس التاريخ كان صعباً للغاية اليوم..! المدرس كان يتحدث بصوت رخيم عن صلاح الدين الأيوبي، وأنا كنت أحلم بالطائرة وكأن قلبي دليلي.
**
- الله اكبر..الله اكبر ..
إرتفع صوت المؤذن. موجة دفء دثرتني فأخمدت اضطراباتِ أمواجي. شرعتُ بالعودة. يجب ألا تفوتني صلاة الظهر. حتماً سيرفعون اليوم صلاةً على روح الغائبين.
2002