أهلا بك في مدينة أحلامي !





ريتا عودة- شاعرة وقاصّة ومترجمة من مواليد النـّاصرة 29-9-1960 * حاصلة على شهادة اللقب الأول في اللغة الانجليزية والأدب المقارن. * تقوم بتدريس اللغة الانجليزية في المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة. * حصلت على المرتبة الأولى في مسابقة لكتابة قصيدة الهايكو على مستوى العالم. * حصلت على المرتبة الأولى في مسابقة "الهيجا" على مستوى العالم. * تملك موقعا على الشبكة الإلكترونية: http://ritaodeh.blogspot.com * تمت ترجمة نصوصها إلى العديد من اللغات عبر شبكة الإنترنيت. صدر لها : ثورة على الصّمت-1994 1994 - وزارة الثقافة والمعارف- الناصرة *مرايا الوهم 1998- المدرسة الثانوية البلدية –الناصرة *يوميات غجرية عاشقة 2001 – دار الحضارة – القاهرة * ومن لا يعرف ريتا 2003- دار الحضارة – القاهرة *قبل الإختناق بدمعة 2004 - دار الحضارة – القاهرة *سأحاولكِ مرّة أخرى بيت الشعر الفلسطيني - رام الله- 2008 *أنا جنونك-مجموعة قصصيّة بيت الشعر الفلسطيني - رام الله- 2009 مجموعات الكترونيّة: بنفسجُ الغربـــَة 2008-رواية قصيرة طوبى للغرباء-رواية قصيرة-2007 سيمفونية العودة 2010-رواية




أريدُ أن أحيَا

أريد أن أحيا:
أن أستيقظَ مع الفراشاتْ لأهيم على وجهي في الحقول،
ساعاتٍ وساعاتْ
أن أشاركَ المزارعين
في زرع بذور الأمنياتْ

أريد أن أحيا:
أن أصغي لصوت قطرات المطر
وهي تُعمِّدُ العشبَ والشجرْ
أن أفاوضَ الطيورَ على أجنحتها،
والناياتِ على نغماتها.


أريد أن أحلّقَ أعلى من النسور
أريد أن أغني أفضلَ منَ العَنادل وشتَّى أنواع الطيورْ

أريد أن أنتهرَ جرادِ الظلام
وكأنبياء العهدِ القديم
أدعو للوئامِ بين الأنام

أريدُ أنْ أفعلَ أشياءَ كثيرة عديدَة،
ولكنَّ صوت طلقاتٍ ناريَّة بعيدَة
يشوِّه كلَّ أحلامي



الاثنين، 20 يوليو 2009

بنفسجُ الغربـــَة 2008- رواية قصيرة جدا الأديبة ريتا عودة



ريتــا عودة
بنفْسَجُ الغُرْبــــَة
ر. ق. ج
2008




* البنفســَجة الأولــــــــَى *




مددّتُ يدي لأنتشلَ بعضَ زهراتِ بنفسج ٍ من مائِها, فإذا بيد ٍ صلبة تناوشني , تناورُني, وتسبقني إليها, وإذا بالجدران تصطبغُ باللونِ البنفسجيّ, والفراشاتُ والغيوم, والكونُ يستحيلُ إلى سيمفونية أسطوريّة ٍ خالدة, وإذا بي أدركُ مفهومَ كون "المرأة حين تعشقُ يصيرُ لونُ دمِّها بنفسجيــًّا".*
- مَنْ يملك الأصل, لا يحتاجُ التقليد...
جاءتْ قهقهتهُ كالترتيلة ِ ساعة الغسق.
- هيَ (لكَ).
صَمَتُّ.
امتحنتُ بريقَ عينيهِ.
بوقار, ألقيتُ قنبلتي العاطفيَّة:
- ولي (أنـــَا) الذكرَى...
حضنَ زهرات ِالبنفسج ِ داخل كفـِّهِ .
على مهل ٍ , راحت أنامله الرّشيقة تحوّطها بخيط ِ أبيض ٍ امتدَّ كحبل ِ الصُّرَة ِ بينــــَ - - - نــَا.
اكتسَى وجهُه ُ بالدّهشة ِ وهو يقدِّمُ لي باقة َ البنفسج ِ الشهيَّة ِ, وفمهُ يقذفُ أولى حِمَمَ البُركان ِ الذي انتفضَ من ركودهِ:
- بل... هيَ (لكِ).
صمتَ.
امتحنَ بريقَ عينيَّ.
بوقار, ألقَى قنبلتَهُ العاطفيّة:



- و(لــَنــــَا) ....الذكرى.

...
..
.
وقعتْ جملته المقتضبة في بئر الهذيان.


إتــّسَعَتِ دوائرُ التيهِ من حولي.
...
..
.
هكذا, وبمنتهى البساطة صارَ( لنا) ذاكرة, لها قاسمٌ مشتركٌ, إلا وهو: البنفسج...!!
...
..
.
تناولتُ الباقة َ من يدهِ. و...قبــْـلَ أن أفلحَ في إخماد جمرةِ الجنون, اقتحمَ صوتٌ أجشٌّ رحمَ المكان ِ بكلمة واحدة تكررتْ برتابة ثمَّ شُحِنــَتْ ببعض العصبيّة:
- خالد, خالد, خالـــــــــد...!
بحلقتُ حولي. جحظتْ عينايَ. لمْ أعثر لهُ على أثر. تسمرتُ كالمسمار فوقَ أرض الحيرة. علقَ السؤالُ في حلقي كالصَّــبّار :
تراهُ كانَ وهما من صنعِ هذياني الخـَلا ّقِ وأنا الأديبة الملسوعة بالنار المقدّسة, أم كانَ حقيقة ً من إبداع ِ القدَر..؟!


...
..
.


كما النمل, ظلَّ السؤالُ ذاتــُهُ يدُبُّ فوقَ بشرة ِ الأيام القاحلة ..
راحَ يؤرقني..
ومع كلّ إغـْمَاضَة ِ جفن...
راحَ حلمُ اللقاء ِيُورقُ في بادية ِ الانتظار ..


----------

* ومضة شعريّة للشاعرة المتألقة: سعاد الصباح












* البنفســَجة الثانيـــــــة *





يؤرجحني القلقُ شرقًا..شوقًا, جنوبـًا..جنونـًا .
أخيرًا , يجلجلُ اسمي في الصالة فتــُرتـِّبــُنـِي أوراقي وتـُسيِّرُني إلى المنصَّة. أباشرُ في إلقاء القصيدة فيدبُّ الصَّمتُ من حولي . أرتِّلُ حنيني للغريبِ الذي صبغَ دمي بالبنفسج ِ .
يُطربني صوتي. أشعرُ كأنَّ روحي غادرتِ هذا الكفنَ الآدميّ, لتحلِّقَ في الفردوس. عيونٌ غريبة تطاردُ نبراتِ صوتي بفضول .
كلماتي تتطاير كالفراشاتِ الملونة تلامسُ الزهرات الشهيّة , تتهادى
كقارب في الرّيح, تتدفقُ كالموج ِ مدّا وجزرًا...


... وكما يسوقُ
الرّاعي الصّالحُ
الإبلَ
إلى المرعى الأخضر
يسُوقــُنِي حنيني
إلى
طائر الرّوح
الذي...



فجأة, كما يجذبُ المغناطيسُ قطعة ً معدنيّة, تجذبني عيناه.
يتمازجُ البريقُ بالبريق.
إنـــَّه ُ هو..!
هو, الرجل الحلم, خالد..!
قد يكونُ اسمه الحقيقي خالد, وقد لا يكون, لا يهمّ البتّة.
المهمّ أنــّه هنا. هنا....!!!

ها هو الطائر الأصيل يتابعُ السنونوة باهتمام مخضَّب بالإعجاب.
أتلعثمُ.
تعلو الهمهماتُ من حولي. أصحو من غيبوبة المفاجأة.
أتخذُ قرارًا عاجلا في أن أ ُسيِّرَ حنيني إليه كما يشتهي هذا النبضُ العاشقُ في عروقي. نظراته الحالمة تمدُّني بالدفء المعسول.
آهٍ خالد. كم أتلهفُ للهبوط اليكَ لعلنا نحيا ما تبقَّى من أيام الغربة ِ معا.
موجةٌ من التصفيق تجتاحُ المكان.
نظراتي تترصدُ حركاته.
ما زالَ في مقعدِهِ يحقنُ أوردتي بالشجاعة كي أرتقي سلم الابداع محوَّطة ً بنظراته الفرعونيّة الحانية .
يخفق قلبي كمن يقرعُ طبلا إفريقيّا في طقوس قبليّة وصوتُ عريف المهرجان الأدبيّ يعلنُ:

(باقاتٌ من البنفسجِ للشاعرة, البنفسجة , مريم عبد الله..)



يلجمني وميض الكاميرات عن الحركة. أدفعُ جسدي النحيل خارج أسوار المعجبين.
بقلق ٍ أبحث عنه. ما زال في مقعده كغيمة لم تمطر بعد.
تتقدمُ طفلة منّي. تشلُّ حركتي. ترفعُ يداها الصغيرتان إلى صدري وتكللني بباقة من البنفسج.
آه, البنفسج..
في هذي اللحظة المصيريّة بالذات, يفوحُ عبيرُ اللقاء الأوّل , ذلك اللقاء الأسطوريّ في متجر الورد.
...
..
.
أبحثُ عنه, كما تبحثُ سفينةٌ معذّبة من العاصفة عن مرفئِهاِ.
يهبط النبضُ في عروقي.
...
..
.
أكانَ لا بدَّ أن يختفي قبلَ أن أحتفي بعودته إلى فردوس العاطفة..؟!
أكانَ لا بدَّ أن يتلاشى ,كالفقاقيع, قبل أن أتوِّجـَهُ إمبراطورا على مملكة حواسي..؟!
أكانَ لا بدَّ أنْ يغدرَ بانتظاري المُدْمِي, فيغادرَ عائدًا إلى منفاهُ قبلَ أن تقرعَ الثانية َ عشرة َ عشقــًا..؟َ
آهٍ, خالد..
آهٍ, أيّها الغجريّ الشقيّ..
أيّها الحبيب الغريب..
لا شئ يكتمل...
لا شئ..
لا.
...
..
.










* البنفســَجة الثالثــــــــة *




" آهٍ, خَالد..
يا توأم الرّوح,

أيّها النصف المضيء من السنونوّة سيكونُ, أن تـُسَلمَنِي للظـُلمَة
فيسْريَ الخَللُ في كِيـَاني الهَشِّ
يـَنـْخَرُ مَا تـَبـَقـَّى
مِنْ جثة ٍ مـُتـَهـَالكـَة.."

ما انفكــَّتْ ذاكرةُ البنفسج ِ العالقة ِ في دهاليز الرُّوح ِ تـُعَذِّبُنِي. تجلدُ ساعاتي ,أيامي والشّهور. صرتُ قشَّة ً في مهبِّ الأرق ِ. أينما أسيرُ, أتلفتُ حولي بحثًا للغريبِ عن أثر.
ها الكآبةُ, تـُمْهِلُني..لا تـُهْمِلُنــِي!!
ها الجسدُ يتصدَّعُ بصمت ٍ مُشين أمّا الرّوح فلا تجدُ لها منفذًا من ذُلِِّ هذا الجحيم سوى: الكتابة.
وهل أحنُّ على الملسوعة ِ بنارها, سوى قلم نزق يشُقُّ حرائِقهُ عبرَ طرُق ٍ وعِرَة ..؟!


كالطيور,
دُونَمَا أعْذَار ِ
تـُهَاجِــرُ..
فتتبَعَكَ الستائِرُ والأيـَائِلُ



ومناديلٌ مُطرَّزَة ْ
بقـُطـَبِ المَذلــَّة
وتبقـَى القـُرُنفـُلـَة
رهينة ََمَخـَاض ِِ المَهْزَلـَةِ
تـُلاطِمُ
عناكِبَ العُزْلـَة


هكذا, اصطفتني العزلةُ فأجدتُ المكوثَ برفقتها, إلى أن قرعتْ بابي صديقة.
- هيا انفضي عنك ِ خيوط العناكبِ وانهضي .
- ليس بي رغبة للحياة.
حدجتني بنظرةٍ. ثمَّ, رمتني بصخرةَ العتابِ :
- أيعقل أنَّ إنسانة مرهفة مثلكِ تستسلم لليأس..؟!
- ليتني ما كنتُ أملكُ هذا القلب الهشّ, ليتني..!
اقتربتْ من زاويتي المعتمة. جلستْ على حافة ِ مقعدي ومدتْ يدها اليمنى فحضنتني . شردتْ دمعةٌ يتيمة ٌ من عيني. جففــَتـْها بأناملِهـَا الرقيقة وراحتْ تهمسُ , وهي تمسِّدُ خصلاتِ شعري , كأنها في معبدِ تصلّي:
- حبيبتي مريم, قومي من رمادك .
لا يأس مع الحياة والضربة التي لم تقتلكِ حتمًا ستقويكِ..
انهمرتْ دموعي. بللتْ كفَّها. آهٍ كم أتوقُ اللحظة إلى رحم أمي . أتوقُ أن أعودَ نطفة ً أتشكلُ أنثى صلبة, وأولدُ من جديد.
حكيتُ لها عن طائر الرّوح فحثتني على مرافقتها الندوة الأدبية علّ الغريبَ يكونُ بينَ عابري الصمتِ فيعيدَ للميزان ِ الكفــَّة َ المفقودة.
...
..
.

لم أكن أنا التي اعتلتِ المنصّة.! كانَ ظلّي..
العيونُ جاحظة من حولي..
الصّمتُ مُطبقٌ على الصالة ..
وبينَ العبارة والأخرى..
تهبطُ عينايَ في بحث ٍ مستميت ٍ عن توأم الرّوح..


أحِبــُّكْ..؟!
كيفَ للحبيبــَة ِِ
أنْ تتشهَّى
أفقـًا
غيرَ أفق ِ الحنين
إلى غِوايَة ِ البنفسج ِ
والفلِّ والياسمينْ.!


أحِبــُّكْ..؟!
كيفَ للغريبــَة ِ
أنْ تسعَى
للفرَار ِ منْ عفونة ِ
مُتواليــَات ِ الأنيــنْ


أحِبــُّكْ..؟!
كيفَ للغجريــَّة ِ
أنْ تدوسَ رأسَ أفعــَى


تحيــَا
حلمَ الزحفَ المُبَكــِّرَ
إلى تفاحة ِ
الشكِّ واليقيــنْ


أحِبــُّكْ..؟!
كيفَ للفريسَة ِ
أنْ تنجوَ
مِن شِبــَاك ِ
الإنتظار ِ المُهينْ


أحِبــُّكْ..؟!
كيفَ وقدْ تقطــَّعَ بَيْنـــُنــَا
إذْ تقطــَّعَ مـَا بَيْنــــَنَا
وظلَّ الطنينُ
يخِزُ خلايَا المدَى
وأطلَّ الصَّدَى
على ذاكَ الممثل ِ الأوحدِ
لفصُول ِ العــَبــَث ِِ اللعيـــنْ



أفــَلـَتِ الأنوارُ من حولي.
بقيتُ وحدي والصديقة.


شبكتْ ذراعَها بذراعي, وسرنا معًا خطوة ً خطوة, في المطر, نعبرُ معًا بُقعَ الوحل ِ المتراكم ِ على الطريق ِ المُؤدي إلى متجر ِ الورد.
...
..
.
هنا..
كانتْ لحظة ....
بل طفرة ٌ زمنية ..
حيثُ التقى النصف ُ المعتمُ منَ التوأم بالنصفِ المضيء,
هنا .. اكتملَ الكيانُ الأسطوري ..
هنا.., كانَ البنفسجُ شاهدًا على جنون اللحظة.
...
..
.
بحلقتُ بالمكان.
لم أعثر إلا على بضع ِ زهراتِ بنفسج ٍ ذابلة ,مبعثرة داخلَ سلَّة ِ القمامة.., دونما ماء.., دونما عطر.., دونما رونق :
تمامًا ...
تمامـــًا كما أنا الآن ..,
وإلى ما لااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا نهاية....! .










~~~~~~~~~





الباقة الثانيــّة
البنفسجة الأولى





في مساء اليوم الألفِ للسقوطِ المُرعب في هاوية الهذيان..., رأيتُ فيما يرى المكتئبون:
بحرًا تنحسرُ أمواجُهُ رويدًا رويدًا.., وإذا بسنونوّة ٍ مبتورة الجناح ِ .., ترفرفُ وترفرفُ .., وإذا بطائر الرّوح ِ يسمع و يرى ويهبط ُ حاملا صليبه فوق كاهله المحني .., يهرولُ عائدًا في دربِ الآلام متدثرًا بثوب ٍ آدميّ..., وهو يهتفُ وصوتُهُ كصوتِ طيور ٍكثيرة:

" حبيبتي, أنا هنا ..,
لا تخافي.
حبيبتي, أنا هو ..,


لا تجزعي..!
كنتُ ميتًا وقمتُ..,
وها أنا حيّ"

وإذا بنورس ٍ شبه ابن إنسان, وجهه كالشمس وهي تضيء في قوّتها.., رأسه وشعره أبيضان كالصوفِ الأبيض , كالثلج.., وعيناهُ كلهيب ِ نار.., ورجلاهُ شبه النحاس النقيّ .., وفي منقاره شبكة في اتساع البحر.., من بين السحب أتى.
ألقى الشبكة في البحر.., فالتقطَ السنونوّة الغائبة عن الوعي وطار




بها إلى الأفق حيثُ ابتلعتهما غيمة.
...
..
.
صحوتُ على شلالٍ منَ العَرَق ِ المالح ِفهرعتُ إلى النافذة , وإذا ببنفسجةِ الحقلِ , زهرتي الوحيدة , المحاصرة بليل ٍ باهت الحُلكة تعزفُ المزمور الأول لــنـــــُُواح ِ ما بعدَ النكبة:


"خالد ..
يا طائر الرّوح الشقيّ..
أيّها الغجريّ , الحالم , الغاضِب, الناقم, المحلّق , المتعالي, المكتئب, المضطرب, الجارح المجروح , المبدع الخلا ّق, المهرّج المفتون , الممثل المجنون, العاشق الملعون..



حبيبي..
يا نورًا يضيء من سمائهِ كوكبي ..
يا نارًا توقدُ حطبي..
يا بعضي وكلّي ..
قُل لي..
لمَ..
لمَ ترَكتـَنــــِي..!؟
...
..
.

أغلقتُ النافذة .
أغلقتُ على نفسي..
ورحتُ أنشجُ وأولولُ:
...
..
.
خالد.. إن كانَ الفراقُ قدرَنا, فليعبــُر عنــّي هذا الوجع ..!




*





الباقة الثانيــّة
البنفسجة الثانية



في السنة الخامسة لميلاد جرح الغياب, كان لا بدَّ لي أن أهبطَ عن صليبي, فإمَّا موتٌ أو حياة, والحياة لا تدلـِّل الضعفاء, بلُ تذلّهم , تطرحهم للذئاب.
قررتُ أن أنتفضَ من رمادي, لأحيا. قررتُ ان ألمَّ شظايايَ المتنافرة في كلّ جهاتِ اليأس.
قررتُ أن أجعلَ لغتي تمطرُ عطرًا , يظلّ حبلَ الصرّة ِ بيني وطائر الرّوح, هذا الغريب الذي لا بدّ أنّه يراني ويسمعني عن بُعدْ. ذبولُ الزهراتِ سيقصيه بينما تفردّها سيدنيهِ من العطر .
التحقتُ بالجامعة قسم أدب مقارن وشرعتُ في صقل موهبتي,فالكتابة عطيّة ٌ من السماء لكنّها تحتاجُ مناخًا مناسبًا لتنمو , وإلا تذروها الريح دون أن تترك ولو خطّا على الخارطة الأدبيّة.
صارتْ الكتابةُ هاجسي الأوحد . رحتُ ألتهم الكتبَ فقد آمنتُ أن وراء كلّ أديب ٍ جيّد , قارئ نهم يسعى دونما كلل ٍ لشحن طاقته الابداعيّة من شتّى الروافد الأدبيّة.
هي الكتابة, هذا الإستحواذُ اللذيذ, الأرقُ الخـَلا َّق ُ, الإبحارُ المغامرُ الى العمق حيثُ المَحَارات اللغويّة ِ واللآلئ الدفينة التي تحتاجُ صيَّادا ماهرًا يعرفُ من أين تؤكلُ الأسماك الشهيّة.
هي الكتابة, رفيقةُ الدرب الحنون, هذي التي مهما أعطيتها أعطتني أكثر وأكثر ; وكلّما قدّمتَ لها الوقت على طبقِ التفاني, كلّما أذهلتني بمفاجآت ٍ لا حصر لها.
...
..
.

مساء ً, مررتُ بحبيبة.
انفرجَ البابُ عن وجهها الطفوليّ .
راحت تتأملني بنظرات ٍ فضوليّة ونحنُ نسيرُ معًا إلى غرفة المعيشة.
همستْ في أذني, ربما لتتفادى الآذان الفضوليّة:
- كم أنتِ شهيّة بالفستان الأحمر يا "مريم".
- غاليتي" حبيبة", كم أنتِ صديقة ٌ وفيّة.
أجبتها.
عاودتِ الكرّة:
- أقسمُ أنّكِ عاشقة..
- أنا..؟!
( احتلَ وجه الغريب كياني. خلته يجلس بيننا يجسُّ نبض عروقي)
تابعتْ هي بثَ موجة ِ التحقيق النفسيّ:
- أنتِ متوهجة على غير المعتاد اليوم ألا تلاحظين ذلك؟!
قلتُ وابتسامةٌ خبيثة تخضّبُ شفتيّ:

- عاشقةٌ أنا..
لا لرجل ٍ ما ..
إنــَّما..
لكلِّ مفاتن ِ اللغة ِ..



قهقهنا سوياً فاصطبغَ الأفقُ بلونِ البنفسجِ, ثمّ غادرنا جنبا إلى جنب إلى الندوة الأدبية.
...
..
.

راحتْ حبيبة تقرأ قصيدتها وعينايَ تطوفان بين الوجوه تبحثان عن طائر الرّوح.
لم أعثر له على أثر ماديّ, لكن استحوذ شعور غريب على حواسي:
إنــّه هنا..
يراني, يسمعني, يشتاقني..
إنّه هنا..
أكادُ أتنفسَ عطره..
أكادُ أرى بريقَ عينيه, لهفته, ذكاءَه ُ المتوقد..
إنّهُ هنا..
ربما في هيئة طيفٍ أثيري ..
يراني ولا أراه..
يسمعني..
ويثمل دون أن يفتضح سرّه!
...
..
.



استفقتُ من موجة هذياني على تصفيق حاد.
عادتْ حبيبة من المنصة فغادرتُ أنا.
سمعتُ صوتا كصوتِ طيور كثيرة يوشوشني :

" حبيبتي, أنا هنا ..,
لا تخافي.
حبيبتي, أنا هو ..,
لا تجزعي..!
كنتُ ميتًا وقمتُ..,
وها أنا حيّ"



غمرتني موجةٌ من النشوة فرحتُ أرتل حنيني للغريب من شاهقِ القلب, وقبل أن أعود مكاني, ألحَّ الحضور على سماع المزيد فقطفتُ زهرةَ الحقل ِ:




لا ...
تبحث عن خطوطِ ذهولي
والهذيان
على خارطة العشق
لا..
فمنذ باغتني الغرابِ
وغربتي .. غبار
وغباري.. انتحار



لا..
تبحث عن اتجاهاتِ
بوصلةِ القصيدة
فمنذ وُئِدَ نورُ الفنارة
جفّتْ آباري, بحاري والأنهار
فهاجرتْ النوارسُ
إلى أقطابِ
الإنكسار




قبلَ أن أطوي الورقة لأتقهقرَ بصمت ٍ, تقدّم منّي طفلٌ أنيق. ناولني باقة َ بنفسج ٍ وقصاصة ورق.
قبّلني وقالَ:



-" هذي لكِ من ذاكَ الرجل".
أشارَ إلى زاوية معتمة في الصالة ومضى.
قرعَ قلبي بعنف.
خالد. لا بدّ أنّه خالد..
لا بدّ أنّه تجسَّدَ ليغسلَ ارقي بمطر اللهفة..
بحلقتُ في المكان.
لم أعثر له على أثر.
هبطَ قلبي.
جحظتْ عينايَ ..
...
..
.


وإذا بابتسامة عريضة تتوّج شفتيّ رجل , وجهه كالشمس وهي تضيء في قوّتها.., رأسه وشعره أبيضان كالصوفِ الأبيض , كالثلج.., وعيناهُ كلهيب ِ نار.

...
..
.



فضضتُ الورقة بعصبيّة فإذا بالعبارة:
" هل نبدأ الحكاية "
..... ترفرفُ
.............ترفرفُ
....................ترفرفُ
في قفصِ ِ الترقُبّْ والإنتظارْ.




*





الباقة الثانيــّة
البنفسجة الثالثة




أفــَلـَتِ الأنوارُ من حولي.
بقيتُ وحدي و"حبيبــَة".
شبكتْ ذراعَها بذراعي, وسرنا معًا خطوة ً خطوة, في المطر, نعبرُ معًا بُقعَ الوحل ِ المتراكم ِ على الطريق ِ المُؤدي إلى متجر ِ الورد.

...
..
.


هنا..
كانتْ لحظة ....
بل طفرة ٌ زمنية ..
حيثُ التقى النصف ُ المعتمُ منَ التوأم بالنصفِ المضيء,
هنا .. اكتملَ الكيانُ الأسطوري ..
هنا.., كانَ البنفسجُ شاهدًا على جنون اللحظة.
...
..
.


بحلقتُ بالمكان.
لم أعثر إلا على بضع ِ زهراتِ بنفسج ٍ ذابلة ,مبعثرة داخلَ سلَّة ِ
القمامة.., دونما ماء.., دونما عطر.., دونما رونق :
تمامًا...
تمامـــًا كما أنا الآن..,
وإلى ما لا نهاية....! .
...
..
.


شعرتُ كأنّ عاصفة ً ثلجيّة تقتربُ من كياني المتهالك.
أرعدتْ سمائي وأبرقتْ.
انهمرتِ العبراتُ من مآقي الوجع المزمن.
فوقَ الرّصيفِ هويتُ كورقة ِ شجر متعفنة.
اهتزّ صوتُ "حبيبة" مع الريح وهي تهتفُ بوجل:
- مريم , ما بكِ حبيبتي؟!
علا صدى المزمور الثاني ما بعد النواحْ:



-آه, حبيبة !
تائهةٌ أنا, في غاب ْ,
والدليلُ غرابْ..
لا أرى إلا أطلال مهدَّمة ,
يبابْ..
لا أسمع إلا عواءُ ذئاب,
نباحُ كلابْ
آهٍ , حبيبة !
كأنّي لا أرَى , لا أسمع, لا أتكلمْ ...
لكنــِّي أتألمْ
آهٍ , حبيبة !
أضغاثُ أحلام ٍ
أضغاثُ أوهامٍ
أضغاثُ آثامْ
تطاردني
صَحـْوًا ومنامْ

...
..
.


امتزجَ ملحُ الدّمع ِ بطحينِ راحتيها , فنضجتْ أرغفةُ الحنان.
اقتربتْ من زاويةِ القلبِ. جلستْ على حافة ِ بؤسي.
مدَّتْ يدها وضمَّتني إليها.
راحتْ تحرر خصلاتِ شعريّ الكستنائيّ من الضفيرة الطويلة كما حبل ِ مشنقة.
همستْ :
-هيا بنا نعود إلى البيتْ.
موجةٌ أخرى من العَبَراتِ اكتسحتْ كياني الهشّ , سجلـَّت سيرَة فـُـتوحتـِها المتكررة فوقَ وجنتيّ.
_ آهٍ, حبيبة !
كم أتوقُ اللحظةَ إلى صدر ِ أمّي!
...
..
.


( أمـِّي !!!)
وقعتْ المفردة في رحم ِالآلام المتقدّة.
فأخذتُ أناجي طيفها:



أيــَّتها النفسُ المطمئنة,
نامي حيثُ أنتِ وأبي وبقية أهلي,
راضيةً ً مرضيّة..
ودعيني
;
أنا اليتيمة, المهزومة, المنشطرة, الجريحة, المنذورة لوحشة ِ الغربة والوحدة منذ الشهقة ِ الأولى
;
أموتُ بسلامْ.
...
..
.



سرتُ وحبيبة والقمرُ ثالثنا إلى البيتْ.
حينَ خيمَ الوجومُ على الغرفةِ, تناولتُ قصاصة َ الورق ِ من جيبي وطرحتها كما حجر النّرد ِ على المنضدة.
- ما هذه؟
حدجتني بسؤال.
تثاءبَ الجوابُ على شفتيّ:
- دعوة عشقـِـيَّة.
- من خالد..؟!!
اتسعتْ دائرةُ بؤبؤيّ عينيها.
...
..
.


(خالد !!!)
عصفَ اسمهُ بكلِّ كياني.
نقلني إلى متاهة ِ الجنون:
تراهُ حقيقة أم وهمٌ من صُنعِ خيالي المهووس بالكتابة؟!
بدأ اليقينُ والظنون يتأرجحان ِ على حبالِ ِ : "لو".
لو أنـَّهُ حقيقة, لمَ غابَ وكأنــّهُ فصّ ملح ٍ وذابَ في بُحيرة؟!
ولو أنــّه وهمٌ , لمَ أشعر بحضوره الطاغي في عروقي!
لِمَ أشهقُ وأزفرُ عطره؟!
...
..
.


- مريم, مريم..!!
...
..
.


عدتُ من شرود ي .
- أهو خالد؟! عادتْ وطرحتْ السؤال بفضولٍ .
- لا.
- من إذن؟!
- أبي.
- ماذا..؟!
(حدجتني بنظرة وكأنّ بي مسٌّ من جنون)
- أقصدُ, هو رجلٌ في مقام ِ أبّي.
- كيف؟!
وقصصتُ عليها حكايتي مع الرجل الذي وجهُهُ كالشمس وهي تضيء في قوّتها, رأسه وشعره أبيضان كالصوفِ الأبيض , كالثلج, وعيناهُ كلهيب ِ نار.
قهقهتْ , فبكيتُ.
تأففتْ :
- والآن, لمَ تبكين؟
قلتُ:
-أشعرُ كأنّي أسيرُ خلفَ جنازة ِ حبّي , وبينَ الهنيهة ِ
والأخرى تطلُّ وجوهٌ من الشرفاتِ على وجعي, تشيّعُ الجثّة بقهقهات ٍ مرتفعة , تمدُّ ألسنتها وتنبشُ قبري!
مرّة ً أخرى حدجتني بنظرة ٍ كأنَّ بي مسٌّ من جنون.
احتارتْ ماذا تقولُ , فقلتُ :
- آه ٍ , حبيبة!
لو تدرينَ كم أفتقدهُ.
لو تدرينَ عمقَ الألم!



اتجهتْ نحوَ النافذة فحررتْ ضلفتيها.
فجأة, فاحَ عبيرُ البنفسج ِ في الغرفة.
بكلمات ٍ متهدجة قالتْ:



-من يتعلمُ معنى الفراق, سيدركُ عُمقَ المحبة.*



أسدلتُ رأسي فوقَ صدرها. أغمضتُ عينيّ .
رحتُ أناجي الطيفَ الأثيريّ الذي تدفقَ بحرًا في عروقي:
...
..
.


خالد
يا طائر الروح
يا غريب
يا حبيب
بكَ وحدكَ
...... أكـْـتــَمِـلْ ......



----

* صالح سعد, " أيام الغربة الأخيرة", صــ 132




*






~~~~~~~~~






الباقة الثالثـــــــة
البنفسجة الأولى




ليلة اليوم الثالث قبل الغياب, رأيتني أدخلُ المرآة المغبَّرة برماد الحلم القديم, فإذا بي وجهًا لوجه مع كائن خرافيّ له وجه رجل , جسد بنفسجة وجناحيّ طائر وعلى جبينه وشمًُ البحر.
راح يتضخم شيئا فشيئا إلى أن صار في طول قامتي.
تورَّد وجهه وهو يبتسم ابتسامة ً عفويـّة ً كالأطفال.
فغرَ فاهُ فإذا بصوتٍ كصوتِ طيور ٍ كثيرة يـُوَشوشني :



" حبيبتي, أنا هنا ..,
لا تخافي.
حبيبتي , أنا هو..,
لا تجزعي..!
كنتُ ميتًا وقمتُ..,
وها أنا حيّ"



هممّتُ بالهرولة ِ إلى جناحيهِ الممتدَّين ِ نحوي, وإذا بأفاع ٍ كثيرة تنبشُ التربة تحت قدميّ, تسعى بسرعة ِ البرق إليّ وفحيحها يشلّ كياني الهشّ, تلتفُ حول عنقي, تعصرُ أنفاسي.
أحتضرُ ألمًا.
أتشظـَّى رعبًا.
بغتة, يخلعُ الطائرُ رداءَهُ الأثيريّ .
يتجسّدُ رجلا في جمال الآلهة.
يتناولُ فأسًا ويلاطمُ الأفاعي الحاقدة كمن يلاطمُ طواحين الهواء.
لكن, هيهات...
ها أنا أهوي قربَ قدميه, جثة متهالكة, مهزومة, في آخر طور حياة, وعلى شفتيّ عبارة:
- ايزوريس, كنْ بخير حبيبي -
...
..
.



صحوتُ على فجر ٍ مختلف النكهة. رحتُ ألمُّ شتات أوراقي وأقلامي وأجهز نفسي للسفر إلى الجامعة حيث افتتاح العام الدراسي.
تسبقني اللهفة إلى الحافلة.
كلّ شئ يسيرُ كما يجب هذا الصباح الخالد!
أتناول المرآة من الحقيبة.
كم هي مرآتي شهيّة اليوم!
تتهادى الحافلة وسط الأشجار المثمرة , وقلبي يزقزقُ ويطير من غصن ٍ إلى آخر.
إحساس غريب , غامض , خفيّ غمرني.
خالد... !!!
تــُراني رأيتهُ أم شُبــِّهَ لي ؟!
إنْ لم أرَه , فمِنْ أينَ لي هذا اليقين بأنّ طيفه لا يفارقني؟!
لمَ أحيا مثقلة ً بهِ كأنـّنا كائن واحد منشطر.
يسيرني, يأسرني .
يتناول القلم ويكتب على أوراقي فأنزوي في الركن أقرأ باعجابٍ ما تخطــُّهُ يدُهُ الخفيّة في جوف العتمة.
لا, لن أقصَّ هذي الهواجس على أحد, كي لا يكون في كشفِ الحقائق مقتلي, كي لا ترجمني القلوب الضريرة بتهمة:
لوثة ُ جنون.
...
..
.


على جمر ٍ, أنتظرُ اقتحام المـُحاضر في الأدب المقارن هذي الغرفة الرحبة, المطلّة على بحر.
تحاصرني عيونٌ فضوليــَّة ٌ من كل جهات القلق.

آهٍ , لو يدرون:
ما لم ترَ عين,
ما لم تسمع أ ُذُن
كانَ سيري
فوقَ حصَى
دربِ الآلامْ



اقتحمت خيالي صورة, راحتْ معالمها تتضحُ رويدًا رويدًا.
رأيتــُني كاللقلق المضروب ِ بلعنة ِ الوقوف دهرًا على ساق ٍ واحدة في ماء ٍ آسن ٍ.
انتفض َالقلمُ بين أناملي النحيلة وشرع بتسجيل المزمور الثالث لنواح ِ ما بعدَ النكبة:




إلى متى,
أزرعُ فسائِلَ
الأمل ْ
وأنتظرْ..
لا أقطف إلا َّ
صُـبـَّار
الصَّبـر
لا أحصِدُ إلا َّ
قــَشَّ الرَّجـَاءْ..؟!



إلى متى,
أحملُ قلبي على طبق ٍ
وأسيرُ
أنِشُّ الذبابَ
عن هذا الكيان الهشّ,
الكـَفـَن..
النـَّعش..
لا ألقَى
إلا َّ رجال الظلّ ْ
لا أتلقـــَّى
إلا
طعنـَات الذُّلْ ؟



إلى متى ...
...
..
.





بغتة
غمرني الإحساسُ بكثافةِ حضور خالد في عروقي.
فـُتِحَ البابُ.
بَانَ رجلٌ في جمــــــال ِ الآلهة.
تهادَى في جوف الغرفة كغزال ٍٍ شارد ٍ.
بحذر,
رتـَّبَ أوراقَهُ.
بعثرَ أوراقَ اتزاني.
طالعَ العيون المتراكمة ككثبان ِ الرَّمل ِ من حولهِ.
تورَّد وجهُه, ُ وهو يبتسمُ ابتسامتــََهُ العفويّة كالأطفال.
فغرَ فاهُ فإذا بصوتٍ كصوتِ طيور ٍ كثيرة يوشوشُ :




أحبــَّائي ..
...
..
.
.
.




راحَ يتحدثُ عن ايزيس ..
وقلبي يقرعُ ويقرعُ كأجراس ِ الفرح ِ فجرَ العيد,
وكلّ رَنــَّة تــُرَتـــِّلُ :


.. خــــــــــــــــــــالد.. خـــــــــالد .. خـــــالد ..
.. حبيـــــــــــــــبي..
أحقــًّا هذا أنت..؟!





*





الباقة الثالثـــــــة
زهرة ُالبنفسج ِ الثانية




هذا الرجل :
القائد العبقريّ النبيل; هانيبال القرطاجيّ , الولوع بمفاجأة أفكاري وإشاعة الأرق في صفوفها, معتمدا في اجتياحه الأخير لصحاري هذا القلب, على تقـنيــََّة ِ التجسس على أحوالي العاطفيــَّة..
هذا الرجل :
المسكون ببحر, يسكبُ الحُبَّ في رأسي
فيفتتَ صخور صمودي, ويكونُ الغرقُ فيه قدري الأولّ والأخير.
هذا العصفور الجنوبيّ المهووس بالطيران وراء الأفق..
كالقصيدة يأتي بغتة ً..
يلمُّ ِ شظايايَ المتنافرة, المتناثرة في كلِّ جهات اليأس, البؤس.
هذا الرجل:
المشاكسُ الأصيل, كالعمر يمضي بغتة ً .. تنشطرُ الذاتُ.. فيتوهَ الشطرُ المُعتم في وحشة ِ الغـُربة, باحثا عن الشطر المضيءِ من كيانـِهِ المزدوج ِ كي يتحققَ
- الاكتمال -
مضمخــًا بعطر البنفسج
...
..
.




ألقى التحية على الطلابِ َ ومضى ..
طرحتُ عنّي عباءة َ الشرود ِ ومضيتُ خلفه.


...
..
.



في الحديقة ِأدركتــُهُ.
ثرثر قلبي معاتبًا:
(لماذا تأخرتَ , يا صاحبي ولم ترأفْ بضياعي؟)
...
..
.



لم أنادي أنا عليه..
ناداهُ الحنينُ المعتــَّـقُ في خوابي العـُمر.
قربَ زهور البنفسج, تسمَّر.
التفتَ خلفه.
رآني.
سارَ نحوي.
أنتزعَ النظارة َ السوداءَ .
مئاتُ الزهور نبتتْ بين لحظة ٍ وأخرى في مغارتيّ عينيهِ,
فكانَ نورٌ
واستعرتْ نارٌ.
...
..
.



كشجرتيّ سنديان ٍ خرافيتين وقفنا متوازيين.
لم تتشابكِ الأغصانُ..
لم يسقط ِ الثمرَ الشهيّ فوقَ بساطِ الجاذبيـَّة.
...
..
.



التقتِ العينُ بالعين ,
وإذا بالسماءِ تصطبغُ باللونِ البنفسجيّ, والفراشاتُ والغيوم, والكونُ يستحيلُ إلى سيمفونية أسطوريّة ٍ خالدة.
...
..
.



صافحني.
تصاعدَ دخانُ احتراقي.
أتى صوتـُه ُ, هذا الصوتُ القديمُ..
كصوتِ طيور ٍ كثيرة.
هدهدَ قلبي النييء الذي لا زال يترقبُ القطافَ:




أحتاجُ أن أمضي الآن .
القاكِ في الثانية عشر غدا في كافيتريا الجامعة.
...
..
.



ومضـــَى...!
ظلَّ طيفُهُ يتضاءلُ شيئا فشيئا, إلى أن صارَ نقطة ً سوداءَ
على خطّ الأفق.
راحَ قلبي يفرج عن همِّهِ بإجهاضِ السؤالِ تلو السؤال:
...
..
.


تراه يعود..؟!
هل الفراق قدرٌ لا مفرّ من جحيمِه ِ..؟!
والحبّ, ما الحبّ ُ ..؟!
أهو لحظة عبثيّة لا تتكرر..؟!
والحياة, ما الحياة ..؟!
أهي مجرد ورطة نبيلة
يقعُ فيها الأهل, ونضرسُ نحنُ عفونة يباسِها..؟!
والأمل, ما الأمل..؟!
أهو عصا في يدِ مكفوف..!
والدمع, ما هو الدمع ..؟!
أهوَ كخرطوم ِ آكل ِ النمل, يشفط ُ الوحلَ من بُحَيـْرات ِ الحيرة..؟!
أم هو ما يعتريني الآن ..الآن من ضعف ٍ أنثويّ ملعون..!!!


.....
...
.
.
...
.....



صباح اليوم الثاني قبل الغياب ِ الأخير, أنهضُ من حلم ٍ سريالي ِّ الملامح ِ مرتعبة ً.
خُيـِّل َ لي أنــِّي رأيتُ التوأم الأسطوريّ الأول في ملفاتِ التاريخ:
قايين وهابيال .
هابيل يقطفُ البنفسجَ منَ الحقل ِويضفرُ الأغصان فيما يُشبهُ الأكاليل, وهو يغرّدُ كطيور ٍ كثيرة,
وإذا بالتوأم ِ المشطور عن ذات ِ البويضة الأصليّة, يستعدُّ لتنفيذ خطتـِهِ الليليّة الجهنميّة:
يتسللُ من الخلفِ . بيدين ملطختين ِ بالوحل يقومُ على هابيل .
يسيلُ الدمّ . تصرخُ الأرضُ. تتناسل اللعنة .
يهزَّ أكتافـَه ُ بقرف ٍ.



يلبسَ رداءَ أخيه المبلل بالدم . يمضي مختالا إلى أبويهِ.
يدعيّ أنّه هو هابيل ( المُدَلـَلّ ) وأنَّ ذئبـًا جائعًا افترسَ أخاهُ.
يحيا على أنّهُ هابيل.
كلّ صباح, يذهبُ إلى الحقل, بقناع ٍ آخر.., لا أحد يرى..,
لا أحد يكترث .
يطمرُ الذنبَ , ويحيا.

...
..
.



أجرجرُ أطيافَ الخيبة ِ خلفي وأمضي إلى الحافلة فتسيرَ بي إلى كافيتيريا الجامعة.
في الركن المعتم ِ أجلسُ ..
تسرحُ قطعانَ خيالي..
يأتي نادل ٌ ما يوقظني من انفلات ِشرودي.
تدبُّ اللهفة في عروقي..
يسألني عن اسمي.
يناولني قصاصة َورق ٍ وبعضَ الكتب ِ ويمضي.
ألمحُ صورة َ خالد على أحد الكتبِ.
أسارعُ بكشفِ المستور في الورقة:





لا تبحــــثي عنــّي.
لأنّـــــــــي أحبــّك ِ
لـــن تحاصرَك ِ اللعنـــــــــــــــة.





ببرود, انتزعُ عينيّ عن الأرض.


أرفعها نحوَ السماء.
أطلُّ على الغيوم الشريدة.
أقررُ:

صار محتومًا أن يقومَ البهلولُ بإسدالِ الستار ِ الأخير,
بيديه الملطختين ِ بوحل ِ العذاب,
على هذي المسرحيّة العبثيّة.





*




الباقة الثالثـــــــة
زهرة البنفسج الثالثة



في ليلة ِِ الغياب الضبابيّ, أشعلتُ شمعة ومضيتُ إلى رواق ِ الرؤَى, حيثُ لا قانون يعلو على قانون: الاختلال, فإذا بي أرى الرواق يزدحمُ بمئات ِ الأطياف ِ الخرافيّة التي راحتْ تتناوبُ على نتف ِ ريش ِ السنونوّة.


.
..
...
...
..
.


قرعتِ الساعةُ التاسعة اختناقا.
تمايلَ البندولُ فوقَ جدار الحِصَار الأخير.
وإذ بأصوات ٍ كثيرة تصرخُ في العاصفة:


رحماكَ هاملت!
وإذا بوجه ٍ نحيل ٍ أكلَ الظنُّ عليهِ وشربَ يقهقهُ بجنون:



أكونُ أو لا أكون
أكونُ أو كيفَ أكون
تلكَ هي المسألة




من عُمقِ أتون ِ الآه المستعر انبثقتِ الضحية ُ الأولى
-أوفيليا-
وهي تولولُ بضعف ٍ أنثويّ:


طعنة ً في الخاصرة , طعنتني..
الكافورَ, أسقيتني..
القبلة َ الأخيرة قبَّلتني
في أمواج ِ النهْـر/ القهْر, ألقيتني..



وغابَ الصوتُ في ضباب ِ الحالة.
.
..
...
...
..
.

.
..
...
...
..
.



قرعتِ الساعةُ العاشرة اختناقا.
تمايلَ البندولُ فوقَ جدار الحِصَار الأخير.
وإذ بأصوات ٍ كثيرة تصرخُ في العاصفة:



رحماكَ يا ديك الجنّ!
وإذا بوجه ٍ نحيل ٍ أكل الظنُّ عليهِ وشربَ يقهقهُ بجنون:




أكونُ أو لا أكون
أكونُ أو أينَ أكون
تلكَ هي المسألة




من عُمقِ أتون ِ الآه المستعر انبثقتِ الضحية ُ الثانية:



-ورد بنتُ الناعمة -
وهي تولولُ بضعف ٍ أنثويّ:




طعنة ً في الخاصرة , طعنتني..
الكافورَ, أسقيتني..
القبلة َ الأخيرة قبَّلتني
في رماد ِالقهْر, ألقيتني..

وغابَ الصوتُ في ضبابِ الحالة


.
..
...
...
..
.


قرعتِ الساعةُ الحادية عشر اختناقا.
تمايلَ البندولُ فوقَ جدار الحِصَار الأخير.
وإذا بأصوات ٍ كثيرة تصرخُ في العاصفة:




رحماكَ روميو!

وإذا بوجه ٍ نحيل ٍ أكل الحزنُ عليهِ وشربَ يقهقهُ بجنون:

على ما يرام سأكون
على ما يرام سأكون




من عُمقِ أتون ِ الآه المستعر انبثقتِ الضحية ُ الثالثة:



- كليوبترا -
وهي تولولُ بضعف ٍ أنثويّ:



حاصَرتني اللعنةُ حبيبي..
فاحتمِلْ غيابي.




وغابَ الصوتُ وراءَ الضباب


.....
...
..
.

قرعتِ الساعةُ الثانية عشر اختناقا.
تمايلَ البندولُ فوقَ جدار الحِصَار الأخير.
فإذ بطيف ٍ مسعور
ذي وجه ٍ تتطاير منه ألسنة ُ الشرور
ينبثقُ من الجدار اللزج.
انقضَّ على عنقي بمخالبِهِ الغليظة.
راحَ يهددُ ويتوعدُ:
أزفت ِ الساعة ُ لتنفيذ ِ العقد ِ الموقعِّ بالدَّم ِ .
منحتــُكِ أسرارَ الكتابة ِ بالنار/
أدخلتُكِ الجحيمَ الفاوستيّ


والآن...
هاتي دمَّكِ لأرتشفَ كرياتِهِ الآدميَّة ِ الملوثة بطين ِ الأرض....
..
.



هبّتْ ريحٌ قويّة.
سقطتِ الشمعة.
أمسكَ اللهبُ بالستائر المخمليّة, بالأوراق ِ البيضاء, بالحلم ِ الورديّ, بالأرض ِ الخشبيَّة.

من جوف ِ العتمة, قهقه َ البهلولُ العجوز:



...لا وقت للحبّ...
- الوقتُ وقتُ الفتوحاتِ الإبداعيّة الكبيرة –

.....
...
..
.
.
..
...
.....



من شرنقة ِ الحلم انبثقتِ السنونوة ُ حرّة ً, طليقة.
فرَدَت جناحَيْهَا في الرّيح ِ وراحتْ تسبحُ في الأثير كأن الأرضَ أعتقتها من عبء الجاذبيّة.
....... فوقَ بساتين ِ البنفسج ِ طارتْ وطارتْ.
....... مرآتُها البحرُ الشاسع.
.......من غيمة ٍ إلى غيمة ٍ راحتْ بفرح ٍ تقفزُ .
....... معَ الفراشات ِ ترتلُ:
....... ما كنتُ مِنَ الإنس ِ يومـًا.
....... مِنَ الطيور ِ أنا.
....... جناحَيَّ منذوران ِ للريح.
....... المدَى غـِوَايتي, حُـلمي القابل ِ للتحقق ِ.
....... سوى لطائر الرُّوح ِ لن أكون.
....... أكونُ أو ماذا أكون.
.
..
..
.
.

على نجمة ٍأتى..
على غيمة ٍ حُبلى بالحنين ِ التقيا.

...
..
.
.
.


ها الخليقة
زوجين ِ زوجين
إلى فـُلـْك ِ مَا قبْلَ اللعنة
يعودون


.
..
...



ويُسْدَلُ الستارْ




*اكتملتْ فصولُ البنفسج *
30/1--- 10/2/2008







سيرة ذاتية

ريتا عودة
شاعرة وقاصّة ومترجمة
من مواليد النـّاصرة
29-9-1960

* حاصلة على شهادة اللقب الأول في اللغة الانجليزية والأدب المقارن.
* تقوم بتدريس اللغة الانجليزية في المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة.
* حصلت على المرتبة الأولى في مسابقة لكتابة قصيدة الهايكو على مستوى العالم.
* حصلت على المرتبة الأولى في مسابقة "الهيجا" على مستوى العالم.
* تملك موقعا على الشبكة الإلكترونية: http://ritaodeh.blogspot.com
* تمت ترجمة نصوصها إلى العديد من اللغات عبر شبكة الإنترنيت.

صدر لها :
(الضغط على اسم الديوان ينقلك الى الديوان)


ثورة على الصّمت-1994
1994 - وزارة الثقافة والمعارف- الناصرة
*مرايا الوهم
1998- المدرسة الثانوية البلدية –الناصرة
*يوميات غجرية عاشقة 2001 – دار الحضارة – القاهرة
* ومن لا يعرف ريتا 2003- دار الحضارة – القاهرة
*قبل الإختناق بدمعة
2004 - دار الحضارة – القاهرة
*سأحاولكِ مرّة أخرى
بيت الشعر الفلسطيني - رام الله- 2008
*أنا جنونك-مجموعة قصصيّة
بيت الشعر الفلسطيني - رام الله- 2009


مجموعات الكترونيّة:
بنفسجُ الغربـــَة 2008-رواية قصيرة
طوبى للغرباء-رواية قصيرة-2007

سيمفونية العودة 2010-رواية




ليست هناك تعليقات: