دراسة وصفية فنية في إبداع ريتا عودة
د. عمر عتيق
ريتا عودة
شاعرة وقاصّة من مواليد النـّاصرة (1960) . مدرسة للغة الانجليزية في المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة. حاصلة على شهادة اللقب الأول في اللغة الانجليزية والأدب المقارن من جامعة حيفا(1984). فازت بالمرتبة الأولى في مسابقة لكتابة قصيدة "الهايكو" و"الهيجا" على مستوى العالم. الإصدارات :1) ثورة على الصّمت . وزارة الثقافة والمعارف ، الناصرة ، 1994 2) مرايا الوهم. المدرسة الثانوية البلدية الناصرة 1998 3) يوميات غجرية عاشقة . دار الحضارة ، القاهرة، 2001 . 4) ومن لا يعرف ريتا . دار الحضارة ،القاهرة ، 2003 5) قبل الإختناق بدمعة . دار الحضارة ، القاهرة، 2004 . 6)سأحاولكِ مرّة أخرى .بيت الشعر الفلسطيني ، رام الله ، 2008 7) أنا جنونك .(مجموعة قصصيّة). بيت الشعر الفلسطيني ، رام الله، 2009. ولها عدد من المجموعات القصصية الكترونيّة: بنفسجُ الغربـــَة. (رواية قصيرة) 2008. طوبى للغرباء(رواية قصيرة)2007 سيمفونية العودة(رواية) 2010 . تُرجم عدد من نصوصها إلى العبرية والفرنسية والفارسية والألمانية والايطالية والصينية .
قصائد الهايكو والهيجا
نوعان من القصائد منتشرة في اليابان، فقصيدة الهايكو قصيرة جدا، أما الهيجا فهي صورة مع قصيدة . وفي كل شهر تعلن الجمعية اليابانية للهايكو والهيجا عن مسابقة عالمية في كتابة قصائد من هذا النوع. وقد حصلت ريتا عودة على المرتبة الأولى على مستوى العالم في كتابة قصائد الهايكو، أما في قصائد الهيجا فقد تمّ اختيار اعمالها بين العشرة الأوائل غير مرّة .( )
إشراقات أسلوبية في شعر ريتا عودة
يحفل النص الشعري / النثري بالتناسل الدلالي ( التناص ) الذي يكشف عن وعي الشاعرة بالآفاق المعرفية من جهة ، ويقتضي من المتلقي مضاعفة يقظته لمحار المعنى المخبوء في أصداف اللغة ، ويجعل التناص من النص طبقات دلالية أو مرايا تأويلية . ومن تجليات التناص استدعاء معجزة السيد المسيح حينما جعل خمسة أرغفة تكفي لإشباع آلاف الجوعى في قولها ( خمسة ُ أرغفة/ قد تصنع معجزة/ فتطعم شعبًا مِنَ الجياع/ لا ..لن أغفر لكَ) . ( ) وذلك في سياق وجداني مشبع بالعتاب "لحبيب" تخلى عن وعده في تحقيق معجزة الحلم الموعود، فالربط بين معجزة السيد المسيح ، وسراب الوعود يجسد المفارقة بين الحقيقة الخالدة ، والوعود الكاذبة في الخطاب الاجتماعي. وتلوذ الشاعرة بعذابات السيد المسيح كي تمنحها صبرا في فاجعة قلب وخيبة حلم وانكسار انتظار في قولها: (انحنت سيقان قمحي، التي ضجَّتْ بالغرور دهرًا/ حصدَ شوقي / ناولني صليبًا من خشب النسيان.) ( )وتستهل قصيدة ( أرض الشك كروية ) بتعويذة مستدعاة من مشهد تقديم الهدايا من المجوس للطفل يسوع في المغارة في قولها :( أأخذلُ المجوسَ الذين أتـّوا مغارة ميلادنا/ ليقدموا لنا ذهبًا ولبانًا ومرًّا؟)( ) وتستدعي طقوس " التعميد كي تكون بلسما لنزيف الذاكرة في قولها :( أُبَ عْ ثِ رُ/ أَوْرَاقَي بِفَوْضَى / وَأَسْتَلُّ مَا أَشَاءُ / مِنْ جِرَاحِي / لأُعَمِّدَ الذَّاكِرَة ) . ( )وتتسم مرجعية التناص الديني بتنوع الديانات ، فمرجعية ما تقدم هي الانجيل ، وفي قولها :( (هذي جراحي/ فادخلوها آمنين) ( )إشارة إلى نص من القرآن الكريم . وتستمد من التوراة الوصايا العشرة في قولها :( لا/ تكسر الوصايا العشر/ المنقوشة/ على أبوابِ قلبينا/ لئلا/ نرتديَ أقمشةَ اللعنة/ فتتوارثها الأجيال). ( )لتشير إلى تخلي " بني إسرائيل " عن الاستحقاقات الإنسانية والأخلاقية للوصايا العشر . وتعبر عن التعالق بين الإنسان والأرض بالتناص الرقمي في قولها : (( عنْدَمَا أَدْخُلُ الْجَنَّة / أَوَدُّ أَنْ يَظَلَّ / صُنْدُوقُ بَرِيدِي /1948 / كَيْ يَسْتَدِلَّ حَبِيبِي / عَلَى عُنْوانِي ) ( )وتبرز في قصائد ريتا عودة تقنية التحوير اللغوي حينما تعمد إلى تغيير كلمة في المثل أو المقولة الشائعة لينسجم المعنى مع السياق الدلالي للقصيدة ، نحو : (أتيتُ قاطعة ً الشكَّ بالحنين...".) ( )ولا يخفى أن قولها تحوير لمقولة ( قطع الشك باليقين ) .و (أحبُّكَ بالثلاثة / وأحلمُ / أن نعبرَ / نهرَ العناء/ لنعودَ إلى أرض ِ العسل) ( ) وقولها ( أحبك بالثلاثة) تحوير لمقولة ( الطلاق بالثلاث ). وفي جل الدواوين تتجلى تقنية التشكيل البصري في لغة القصيدة ؛ إذ تعمد الشاعرة إلى كتابة الكلمة بأشكال فنية تنسجم مع الحالة الوجدانية ، نحو: ((كُلَّمَا فَاضَ نِيلُكَ / عَلَى ضِفَافِي/ أَخْتَارُ طَوْعًا / أجْمَلَ/ عَلَى لَهَبِ شَفَتَيَّ/ وَأَقْذِفُهَا دُونَمَا طُقُوسٍ/ إِلَى حِضْنِ أَمْوَاجِك/ إِلَى أَنْ
تَ
هْـ
دَ
أَ
عَ. وَ. ا. طِ. فُ. كَ ) ( )
وتقطيع الحروف وكتابتها أفقيا ورأسيا يضاعف من يقظة المتلقي لدلالات تعجز عنها الكتابة المألوفة.
وتجسد الشاعرة الصراع بيت حرية المرأة والبعد الذكوري في الثقافة الشرقية بمكونات " لعبة الشطرنج" في قولها : (أيّها الطائر الشرقي/وحدي أنا مَدَاكَ/ غافلتُ الجنود والملك والوزيرين والملكة/ وتسللتُ من القلعة / أتيتُ قاطعة ً الشكَّ بالحنين.)( ) وتسجل موقفا رافضا للثقافة الطائفية المؤسسة على تحريم زواج الفتاة من غير طائفتها الدينية كما يتجلى في قولها :( عندما اخترتك / لتكون تاج كرامتي /لم تؤرقني سهام القبيلة / ولا الألسن الصفراء الكثيرة/ لم تشغلني / بطاقة ديانتك .) ( )
صورة " الآخر في مجموعة ( أنا جنونك)
تحفل قصص المجموعة برصد مشاهد تصويرية تجسد البنية الفكرية والنفسية لليهودي ، وترسم أبعادا نفسية تكشف عن إشكالية " التعايش" بين الفلسطيني واليهودي ، وتجسد التحديات القومية التي يكابدها الفلسطيني على أرضه في ظل " الجوار القسري" بينه وبين اليهودي.وتتخذ المشاهد التصويرية ثلاثة مسارات ؛ الأول : صورة اليهودي العسكري الذي يستدعي همجية الاحتلال ومعاناة الضحية ، كما في قولها : (قميصَهُ الَّذي دلَّ على كونِهِ جنديًّا أثارَ فضُولِي، فبدأَتْ تتراقصُ في ذاكرتِي صُوَرُ أجسَادٍ مَبْتُورَة، وبيوتٍ مُهَدَّمة. دمُوعٌ، هلعٌ، دَمٌ. صُوَرٌ تُطَالعُنَا بِها النَّشراتُ الإخباريَّة كلّ يوم) . ( )والثاني : ثقافة العنصرية المؤسسة على ثنائية استعلاء اليهودي ودونية العربي ،إذ تحرص العنصرية على تشويه الحق الإنساني الفطري ، نحو حق الفلسطيني في التعليم الجامعي في قول الكاتبة : (أتظُنُّ أنَّ العِلْمَ لنا؟ نحنُ (في نظرهِم) دونَ مستوَى الالتحاق بالجامعات. نحنُ عُمّالُ نظافة لا أكثر.) ( )والثالث : ثقافة الحقد والكراهية التي يشكلها الفكر التوراتي المحرف الذي يسعى إلى تغييب الفلسطيني وتهجيره ، كما يحدث في " الناصرة العليا ذات الأغلبية اليهودية، فالتفوق الديمغرافي في بعض المدن يشجع اليهودي على إظهار كراهيته وحقده ، وبخاصة في الأعياد الدينية لليهود ، كما حدث في " عيد الغفران " في وصف الكاتبة :( متى نخرج من هذه الكارثة؟ هل سيقذفون الحجارة علينا؟... مررنا بهم. مجموعات من الأطفال لم نرَ من وجوههم إلاّ قُبّعَات صغيرة تُغطّي قمة رؤوسهم. لم يَرونا. ... تُرَى، ما العلاقة بينَ الدين والحجارة؟ )( ) وتسجل قصص المجموعة مفارقة حادة بين دلالات المسارات الثلاثة لدى اليهودي والثقافة الاجتماعية الحضارية لدى الفلسطيني حينما يتجلى الشعور بالشفقة على العجوز اليهودية التي تعاني من الوحدة ، ولا أحد يزورها إلا في الأعياد، والتعبير عن " حسن الجوار " مع الجارة اليهودية المصرية وابنها " يوسي " ، وهو جوار اجتماعي لا يقبل حديثا في السياسة كيلا يخسر الجارُ جارَه . ( )
اللغة الشعرية في النص السردي
حينما يشرع المبدع بتشكيل النص لا يستطيع أن يسجن الدفقات الإبداعية والأطياف النفسية في دائرة لغوية محددة ؛ فكل دفقة شعورية تقتضي شكلا لغويا وأسلوبيا يندغم معهما. فلا وجود لفروق " مقدسة " بين لغة القصيدة ولغة القصة ، واستئناسا بما تقدم فإن لغة قصص المجموعة تنبض بإيقاع الشعر ، وتعبق بالصورة الاستعارية ، وتمنج المتلقي أفقا لتحليق خياله ، وتوليد معان تعجز عنها اللغة المعيارية التي يتوهم بعض النقاد أنها لغة القصة . وتأتي لغة الشعر التصويرية في القصة في المشاهد الوجدانية الأكثر توترا وكثافة ، نحو (انتظرْتُ صوتَهُ يُضيءُ عتمةَ حواسّي. انتظرْتُ رائحةَ عَرَقِهِ تُخَدِّرُ صَمْتِي). ( )كما تُضمر دلالات رمزية تشكل عصبا رئيسا في الرؤية الفكرية للقصة ، نحو (أنت سنونوتي ما دام في الأفق جناح يخفق، وأنا نورسك ما دامت الشواطئ ميادين ثورتي) ( )وتحفل لغة القصص بتقنيات تبادل الحواس ، وإعادة صياغة عناصر الوجود ، نحو(هزمني ذبولُ صوته. انتفضتْ عصافيرُ صغيرة كثيرة داخل قضبان قلبي وصرختْ بي: "مجنونة! هو يحبّك) ( )
الفضاء الدلالي
ترصد الكاتبة المفاصل الرئيسة للسياقين الاجتماعي والسياسي ؛ فتعرض النتائج الإنسانية للبطالة والفصل من العمل ، والفجوة الطبقية التي تتجلى في ثنائية الترف والحرمان. وتصور دموية المشهد السياسي من اعتداء وهدم بيوت واعتقالات تعسفية . ومصادرة الأرض والنزوح والنفي . وتصور همجية الاحتلال وسلوكه السادي في الحواجز العسكرية التي تشهد موت المرضى الذين يُمنعون عن اجتياز تلك الحواجز. ( )
تصاعد وتيرة الحدث
يتميز المستوى اللغوي بتقنيات أسلوبية تمنح الفضاء السردي كثافة في الحدث بوساطة الجمل القصيرة المتلاحقة التي تقترب من اللقطات السينمائية المتسارعة ، وتقترن كثافة الحدث وتسارعه بكثافة التموجات النفسية للشخصية ؛ إذ يشترك نمو الأحداث والتموجات النفسية بالصعود والكثافة ، نحو : (دخلتُ المطبخ. خرجتُ. عُدْتُ إلى غُرْفَةِ النّوم، إلى الشّرفَة. جَمَعْتُ الغَسيل. أغْلَقْتُ النّوافذ. عدتُ إلى المطبخ. غَسَلْتُ الأطْباق. لقد تأخرَ زوجي! قالَ إنّهُ سيعود اليوم منَ العمَلِ مبكرًا. لماذا تأخرَ؟ تُرى ماذا أحْمِلُ لَهُ ؟علبة التبغ؟ الجريدة؟ بنطالاً آخر؟ ) ( ) التناص ( التناسل الدلالي) في النص السردي
تتوزع المشارب الثقافية التي أسهمت في تشكيل الرؤية الفكرية السردية إلى مرجعيات مختلفة ، ومن أبرزها المرجعية الوطنية التي تختزل مفاصل القضية الفلسطينية ، نحو استعداء شخصية الشهيدة لينا النابلسي التي استشهدت في نابلس ( 15 أيار 1976 )في قولها :(عادَتْ (لينا) تبكي. تذكرتُ القول: "شعبُ لينا لن يَلينا".)( ) في سياق قصة " أرض البرتقال " التي صورت اعتداء اليهود على العرب في عيد الغفران في الناصرة العليا . ولا يخفى التعالق الدلالي والنفسي بين استدعاء الشخصية وبؤرة الحدث .
وفي قصة ( وقد لا يأتي ) تربط الكاتبة بين " نكبة " المرأة ثقافيا حينما تُحرم من الزواج من رجل من غير دينها ونكبة فلسطين في قولها ( مرّ بي ستون احتضارا، وما زالت عيناي معصوبتين.) ( )انطلاقا من أن الانحطاط الثقافي سبب في الهزيمة السياسية .وترصد التفاوت المؤلم بين خطاب تاريخي مشرق ، وخطاب سياسي مظلم في قولها : (آ آ آ ه يمّا! درس التاريخ كان صعبًا للغاية اليوم! المدرّس كان يتحدث بصوت رخيم عن (صلاح الدين الأيوبي). ( ) وتتكئ على البعد الأسطوري في غير موضع ، نحو تحوير أسطورة صخرة " سيزيف " في سياق الإصرار على مواجهة الاحتلال في قولها : (رميتُ الصخرة خلفي وأنا أصعد إلى القمة.) ( )وامتصاص أسطورة إيكاروس وابيه ديدالوس اللذين كانا سجينين في قلعة في جزيرة " كريت " في قولها من قصة ( محكومون بالأمل :( لا أخشى إلا أن يذوب الصمغ عن جناحيّ وأنا أقترب من الحقائق برشاقة. تمطّى ظلٌّ قربي، وارتفع صوت ينخر ضميري.) ( )
وتتجلى ثقافة التوحيد في حنايا القصص ؛إذ يشكل القرآن والإنجيل نسيجا ثقافيا في الرؤية السردية ، فتستدعي آيات من القرآن الكريم تصل إلى درجة الاقتباس ، نحو(ويلاه!" صرخَ، فخيّل إليه أنَّ السماء انفطرت، والنجوم انتثرت، والبحار فُجّرت، والقبورُ بُعثرتْ) ( )وتستحضر المشهد المأساوي لقتل يوحنا المعمدان على يد ابنة هيروديا( سالومي) في قولها : (تجمَّدَ الألمُ في عروقي. تراختْ كلُّ عضلاتي المتشنجة. سقطتْ صورةُ (سالومي) التي سَعتْ من خلال رقصةِ إغواء لقطعِ رأسِ المعمدان). ( )
مراجع الدراسة
1-دلة ، بطرس : مع الشاعرة ريتا عودة (قبل الاختناق بدمعة ) . صحيفة الأخبار 18/4/2008
2-عودة، ريتا : مرايا الوهم. . المدرسة الثانوية البلدية الناصرة 1998
3-عودة، ريتا : قبل الاختناق بدمعة. دار الحضارة ، القاهرة، 2004
4- عودة، ريتا : يوميات غجرية عاشقة. دار الحضارة ، القاهرة، 2001
5-عودة ، ريتا: مجموعة أنا جنونك . بيت الشعر الفلسطيني ، رام الله، 2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق