الخميس، 30 أبريل 2015

ريتا عودة وجنون الأدب في المجموعة القصصية أنا جنونك




جميل السلحوت:
ريتا عودة وجنون الأدب في المجموعة القصصية أنا جنونك

صدرت مجموعة "أنا جنونك" القصصية للأديبة النّصراوية ريتا عودة عام 2009، وتحوي المجموعة التي يحمل غلافها الأول لوحة لبيكاسو وتقع في 107 صفحات من الحجم المتوسط حوالي خمس وعشرين نصّا قصصيّا. وهذه هي المرّة الأولى التي أقرأ فيها قصصا لأديبتنا، وكانت مفاجئة لي كوني أعرف أن أديبتنا شاعرة، وتبيّن لي أنّها قاصّة ولها روايتان قصيرتان أيضا كما جاء على غلاف مجموعتها القصصيّة، وجهلي باصداراتها السّرديّة لا ينتقص من أدبها شيئا.
واعترافي هذا يأتي لصالحها طبعا، حيث أنّني من المعجبين بشعرها ولغتها –مع أنّني لا أعرفها شخصيّا- وهذا يعني أنّ شهادتي حول قدراتها الأدبيّة تأتي محايدة لا تأثيرات عليها، وإن كنت أعترف بأنّني لست ناقدا محترفا، وأزعم أنّني أقرأ الأدب وأتذوّقه، وأكتب انطباعاتي الشّخصية حول بعض قراءاتي. وطبعا ستكون لي قراءة لأحد دواوينها الشّعرية، مع تخصيصي هذه القراءة المتواضعة لمجموعتها القصصيّة"أنا جنونك." وقد لفت انتباهي في قراءتي لبعض نتاج أديبتنا هو ثروتها اللغويّة الواضحة، وارتكازها في نتاجها على جماليات الّلغة لتخدم مضامين نصوصها، فالّلغة الشّاعريّة واضحة في نثرها أيضا، ممّا يزيد نثرها جمالا على جمال...ونصوصها تشي بثقافتها الرّفيعة، ممّا يثبت بأنّها مطالعة ومطّلعة على الكثير من موروث ثقافتها العربيّة، وثقافات أخرى، ويبدو أنّ دراستها للغة الانجليزية قد أعطاها فسحة أخرى للمطالعة بهذه اللغة، وبالتّالي فإن التّزاوج الثّقافيّ عندها مع موهبتها الأدبيّة ينضح بالتميّز.
وممّا يلفت الانتباه في كتاباتها الأدبيّة أنّها تكتب وتبوح بلسان أنثويّ، أي أنها منحازة لبنات جنسها، وهذه نقطة أخرى لصالحها...وواضح لمن يقرأ نتاجها أنّها تكثر من استعمال البحر والسّمك في نصوصها، وسواء جاء ذلك بشكل مقصود أو عفويّ، فإن لذلك دلالاته الّلغويّة والمعنويّة أيضا...فالبحر عميق لا حدود له، والسّمك هو ابن البحر الذي يعيش في أحضانه أيضا.
وإذا عدنا إلى بعض نصوصها القصصيّة سنجد في بعضها انحيازا لقضايا شعبها وما يعانيه من اضطهاد وتمييز، ويظهر ذلك جليّا في قصّة"الفستان الأحمر" حيث جاء فيها: "بدأت أعبر الشّارع الفاصل كحدّ السّيف بين الحيّ العربيّ المهمل عبر سنوات الجفاف، والحيّ الآخر المزروع بالجنّة"ص9. والحديث عن حيفا طبعا، وهذه إشارة واضحة إلى التّمييز بين العرب واليهود في حيفا المدينة المختلطة، وبالتّالي فإنّ هناك من يقف حائلا بين خروجها من "الحيّ العربيّ المهمل، وبين دخولها للحيّ اليهوديّ"المزروع بالجّنة" تقول: (خطواتي متثاقلة كسلى، صرخ أحد السّائقين الذي كاد يدهسني بشاحنته الضّخمة، "عمياء...الضّوء أحمر.)ص9 وطبعا فإنّ عبور الطريق في الضّوء الأحمر ممنوع، والذي صرخ بها جنديّ طبعا. وهذا الجنديّ يذكّرها بممارسات جنود الاحتلال القمعيّة فماذا كانت ردّة فعلها؟ "بدأت تتراقص في ذاكرتي صور أجساد مبتورة، وبيوت مهدّمة، دموع، هلع، دم، صور تطالعنا بها النّشرات الاخباريّة كلّ يوم، بل كلّ ثانية"ص9. وهي تتعاطف مع أبناء الكادحين والمحرومين أيضا، فالسّاردة التي تتحدّث بلغة"الأنا" في وهي عاملة بسيطة فقيرة تعيل براتبها الذي لا يتجاوز الألفي شاقل أهلها وإخوتها الثمانية، كان في خاطرها أن ترتدي فستانا جميلا أحمر الّلون، رأته معروضا في واجهة إحدى المحلّات، فسألت البائعة عن ثمن الفستان(كم؟ همست ببرود " ألف")ص11 ورغم حاجتها الماسّة للألف شاقل إلا أنّها قرّرت شراء الفستان، فأخرجت ألف شاقل من حقيبتها؛ لتدفعها ثمنا للفستان، وكانت المفاجأة:" ابتسمت المرأة بإعياء ولم تتناول المبلغ، ابتسامتها الصّفراء شلّت حواسّي، بعثرت هدوئي، قالت: ألف دولار "تركتْها خائبة و"استدارت لتحيّي امرأة تلفّ جسدها بالفراء"ص12، إذا فالفقراء غير مرحّب بهم في هكذا محلّات.
وفي قصّة "وقد لا يأتي" ص48 تثير أديبتنا قضية غاية في الأهميّة، وهي منع الزّواج بين أتباع الدّيانت المختلفة، فقد صاح والد الفتاة بها:"تخطّطين أن تضعي رأسي في الطين؟" ص48، فردّت البنت التي كانت تنتظر المساعدة من والدتها:"كيف أضع رأسكم في الوحل وأنا أسعى لرباط مقدّس؟ "ص49 فعاجلها بالسّؤال:"هل فاتك أنّه من غير دينك؟"ص49 واجتمع وجهاء العائلة من مناطق مختلفة و"قرّروا أن يقوم أبي وابن عمّي بالمهمّة، ثمّ عاد كلّ إلى تجارته وخمّارته وبقيت وحدي"ص50، وعندما استلّ والدها السّكين وهجم عليها لذبحها:"أجفلتُ...انتفضت كقشّة في مهبّ الحقد...صرخت من قحف رأسي: يمّاااااا...صرخ بي أن أصمت صونا لكرامتي"ص51 وقبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة كانت تتساءل"متى ترقص الفراشات الحالمة حول قناديل العشّاق؟ متى؟ متى؟"ص51.


02.04.2015



قراءة في كتاب "أنا جنونك




قراءة في كتاب "أنا جنونك"، للكاتبة: ريتا عودة، 2009
بقلم: رفيقة عثمان أبوغوش


جمعت الكاتبة ريتا عودة مجموعة قصصيَّة، في ستٍّ وعشرين قصَّة، منذ سنة 1982، ولغاية سنة 2009. كانت المجموعة القصصيَّة قصيرة، وهادفة جدًّا ذات مغازٍ عدَّة، بصوت امرأة في معظمها تكون هي الراوية، مما تضيف مصداقيَّة على النصوص؛ بحيث استوقف الكاتبة فكرة ما، أو خاطرة قدَّمتها بأسلوب شيِّق وجميل، كنقد لاذع، أو بأسلوب هزلي تارةً تطغى عليه المفارقات، أسلوب جاد تطغى عليه الجديّة والحزن.
تطرَّقت الكاتبة لمضامين، تعكس حياة النساء، من خلجان أنفسهنَّ، كالنساء اللّواتي يعشن في طبقات مختلفة، كما ورد في قصَّة "الفستان الأحمر"، المرأة البسيطة، الفقيرة، والمرأة الفنيَّة غناء فاحش.
تعتبر لغة الكتاب عربيَّة فصحى، لغة السهل الممتنع، وهي غنيَّة جدًّا بالمحسنات البديعيَّة، والتصوير الأدبي الجميل؛ إلا أنها استخدمت اللغة العربيَّة العاميَّة أحيانًا عندما اقتضت الحاجة، وكانت في موقعها، تُعبِّر عن الحدث بصدق، وباللهجة المحليَّة؛ كما في قصَّة ترانسفير "قالوا في الأخبار إنهم رح يعملوا لنا ترانسفير"، "دَخلِك شو معنى هالكلمة الغريبة يا خيتا؟"." يمًّا، أشتهي اليوم طبخة فريك"، كما ورد في قصَّة "قطرة مطر".
ظهر تلاعب لغوي للتعبير عن رمزيَّة المضمون، كما ورد في قصَّة "شرطة": "ارتطمت نظراته بلافتة مصلوبة على مبنى الشرطة. ابتسم قهقه حتى ثمالة المرارة، فقد سقط المقطع الحديدي "طة" عن المقطع "الشر" في العبارة: "الشر... في خدمة الشعب"" كما يسقط القناع عن وجه الحقيقة."؛ كذلك كما ورد في قصَّة "محكومون بالأمل "هؤلاء المحكومون بالأمل! نحن المحكومون بالألم".

تأثَّرت الكاتبة عودة بالحياة المختلطة مع اليهود، كما ورد في قصَّة الفستان الأحمر"، "سأطلب من (يوسي) أن يُرتِّب لي ساعات عمل ليليَّة"؛ كذلك في قصَّة "أرض البرتقال" ، والتي تعتبر قصَّة رائعة، حيث صوَّرت الكاتبة صورة حياتيَّة، لم يتطرَّق اليها الكتاب، بتصوير حياة عائلة فلسطينيَّة تعيش داخل الخط الأخضر، ومما تعانيه من أزمات نفسيَّة خلال الأعياد اليهوديّة؛ خاصَّة في عيد الغفران ، نجحت الكاتبة في تصوير فعاليات، وخلجات نفسيَّة مضغوطة خلال مدّة زمنيّة محدودة، قصَّة واقعيَّة جدَّا، صوَّرت الكاتبة خلالها أحاسيس وتفكير، ومونولوغ في آن واحد، بواسطة تحريك الشخصيَّة المحوريَّة، والشخصيَّات الثانويَّة الاخرى في واقع درامي خيالي تصويري يصلح لتصوير فيلم درامي بالأسلوب المُضحِك المُبكي.
تخلَّلت الرمزيَّة في قصص الكاتبة ريتا، في القصص الوطنيَّة، كما ورد في قصَّة "قصَّة ليست قصيرة" "هنالك من سيرتدي السروال الأبيض من بعد خالد".
المرأة في قصص الكاتبة ريتا: مجَّدت الكاتبة المرأة الفلسطينيَّة، كما ورد في قصَّة "قصَّة ليست قصيرة": "هذي الأم الفلسطينيَّة التي كانت وستبقى في ذاكرة كل أبناء المخيَّم حضنًا لكل موجوع، ومنديلا لكل دمعة، وطلقة لكل يد تتحدى القهر".
كما ورد بقصَّة: "ومات البلبل وحيدًا "لو مات بلبل واحد لا بُدَّ أن يولد من رحم الأرض ألف وألف بلبل. لابدَّ يومًا أن تُكسر كل الأقفاص؛ لتحيا الطيور في الفضاء الرحب حرَّة طليقة كما كتب لها منذ بدء الخليقة. لا بدَّ.. لا بُدَّ! عبَّرت الكاتبة عن مشاعر وخلجات الطفلة الصغيرة، كما ورد في قصَّة "أبعد من أن تطالني يد"، البنت التي خلقت عالمًا خياليَّا، رغم القمع والحرمان من اللعب بالحبل، وإجبارها بغسل الصحون: "تستهويني فقاعات الصابون وهي تتطاير من حولي كالفراشات الملوَّنة. أتناول طبقا. أصنع حبلا، ومع كل طبق أحلِّق بعيدًا؛ فوق البنايات والسهول، فوق المراكب، فوق الكواكب، أبعد، أبعد من أن تطالني يد".
العاطفة والخيال: طغت على الكتابات القصصيَّة عاطفة جيَّاشة، فيها تعابير صريحة حول الحب والعلاقات بين الجنسين، ظهرت هذه العاطفة بشكل واضح خاصَّة في القصص الأخيرة من صفحة 39 لغاية صفحة 107. ( منذ سنة 2004-2009). مزجت الكاتبة الرومنسية الخياليَّة مع ظواهر الطبيعة، في كافَّة الفصول: كما ورد في قصَّة "أميرة الحكاية" ، لو يدري كم أحبُّه، هو نور القلب..". :ما ورد في قصَّة "أنا جنونك" عنوان الكتاب: "أنتِ العشق والعشق أنتِ"، كذلك كما ورد في قصَّة "كل شيئ صامت"، "احبَّه بسذاجة فراشة، وبراءة وردة، ودومًا أشعر أنه بعيد بعيد..". في قصَّة "زرقة البحر" " أنت الأصل، وهم اشباه الرجال. فيكَ من البحر زرقته، ومن الاشجار خضرتها، ومن النسيم رقَّته، ومن السماء قدسيَتها، ومن الأريج أريجها، ومن الليل غموضه، ومن الطيور تغريدها، ومن النمل صبره، ومن النحل حكمته، ومنِّي جنوني.


02.04.2015



قراءة في طوبى للغرباء




قراءة في طوبى للغرباء
احمد الحرباوي


رواية أخرى للكاتبة توقع بي في فخ مدجج بجمال لغوي متمرد على نفسه لأستسلم لحواسي التي سارت بي بين أروقة أحداث ولغة الرواية التي بنيت على الدهشة، أسلوب عميق يكرس المشاعر الإنسانية حد التماهي بألمها وهذا يدل على عمق احساس الكاتبة بما تكتب وعنصر الإبهار الذي توقعنا بشباكه. الألم الذي حف الشخصية الرئيسية للرواية وهي (حنّى) وقدرة الكاتبة على الغوص في مونولوجها الداخلي جعلنا نتعايش مع الحدث بمرارة وقائعه وبؤس ما قد يصل له الإنسان من المشي بخطى تائهه الى الموت انتحاراً من أجل التخلص من ظلم يفرضه الواقع علينا رغماً عنا، وظلم ما قد نتعرض له من أقرب أشخاص إلينا كزوج البطلة الذي سلبها كيانها ووجودها من أجل أن يتمرغ بحياته على شطآن أملها وألمها.

وشخصية الحبيب (فادي) المصلوب على جذع أمنيات البطله لم يكن سوى نبي مخلص بآلامه لحياتها التي عاشت تتضرع للوصول اليه ولكن ليس كجثة باردة كما حملتها في احلامها.
هذا المزيج المأساوي سلط الضوء على عذابات النفس البشرية وما قد تتعرض له من ضغوط يفرضها عليها المجتمع والظلم الذي يجب أن نقابله ببصيص من الأمل قد ينطفئ يوماً، وما أرادت أن توصله الكاتبة هو أن في الحياة ما يستحق أن نعيش لأجله ولو كان طيف حُلم.

الرواية على قصرها ووحدة حدثها إلا أنها تُشبع الحس النفسي للقارء وهذا نقطة في رصيد أي كاتب أن يوصل ما يريد بشيء حجمه الكتابي صغير ولكن مفعوله يفوق حجمه بأضعاف، لغة السرد متينة ومزركشة بجمال بلاغي لاذع للشعور حتى لو كان فيه جزء من المبالغة التي لم تؤثر سلباً ولم تأتي بشكل مُنفر، أسلوب جميل وراقي ومتميز يبعث الثقة في مستقبل الأدب الفلسطيني.


11.04.15



سأحاولك مرّة أخرى




سأحاولكِ مرة أخرى ....أنا جنونك - ريتا عودة
محمد عمر يوسف القراعين:


ريتا عودة قاصة وشاعرة صادقة في مشاعرها، تتناول في قصصها القصيرة أحاسيس المرأة في مختلف حالاتها، عاطلة عن العمل يقتلها الفراغ، عاملة دخلها لا يلبي تطلعاتها، تعيش التمييز في وطن مغتصب، ولكنها تحلم وتصل بحلمها إلى السماء، وأحيانا تشدها الوساوس لقارئة الفنجان. هي قوية لتدوس من يلسعها كأنّه صرصار، وتعطي الأمل للمحكومين بالألم، فإذا مات بلبل واحد لا بد أن يولد من رحم الأرض ألفُ ألفِ بلبل، وإذا سقط خالد فهناك من يرتدي السروال الأبيض من بعد خالد، جيّاشة في مشاعرها نحو الفقراء والمظلومين، حتى أنها أنطقت قطرة المطر، موضوعها القلوب مهما اختلفت الأديان، إلا أن سكّين شرف العائلة كانت أقوى من أحاسيسها، فما عليها إلا انتظار نيسان. ولتقديم العذر لأنّها لم تقدّم الحلّ لهموم حواء، تحجّجت بأنّ هذا ليس من وظيفتها التي هي أن تلقي حجرا في بئر راكدة، وهذه هي الدّنيا، أحيانا بالمقلوب، "تيجي تِصيده يْصيدك". كل هذا وذاك، تعبر عنه ريتا بأسلوب أدبي شاعري جميل، حافل بتخيلات ثرية وتشابيه غنية، قصصها كأنّها قصائد نثر، والشّعر في ديوانها حدوثة، فيختلط الشعر مع القصة بلغة ليست بالبسيطة ولا بالمعقدة ولكنها ملونة، كما قال محمد حلمي الريشة، لتثبت أنها تملك زمام اللغة، وتلجأ في خيالها إلى رمزية مناسبة للموضوع، لا تتعدى ربات الحب والخصب، بحيث يبقى المعنى في متناول القارئ.
تناولت حدوتتها الشعرية قصّة البقاء في الحياة في ومضات جميلة، تبدأ في أولاها " السنونوّة المجبولة من طين الحنين...المنسوجَ حلمها من حرير الحب "، ولكنها تحتاج إلى جناح ثان مع جناحها لتتمكن من التصفيق. كأنثى تبحث عن فارس كما دون كيشوت، يحارب طواحين الهواء لتحرير حبيبته، فليحارب فارسها طواحين كبريائه حتى " ترخي له جديلتها ليصعد إلى قلبها.. يحتاجها لبؤة وقطة وديعة، تحتاجه رعدا وبرقا ومطرا بديعا". لا تنسى ضيفتنا المساواة والحرية. "أكون له سنونوّة .. حين لا يكون ليَ القفص"، وجزيرة يحيط بها البحر، فيفيض عليها بالنسيم. وفي الومضات الرابعة، تبلغ قمة التعبير عن حالتهما في الجوى والهوى، تُطوّف بهما الجهات الأربعة " ال..تتجاوز مدًا وجزرًا.. شوقًا وشرقًا..جنوبًا وجنونًا".
لها الحق أن تحلم "سقطت تفاحة فوق رأسي، ورأيت فارسا فوق الغيم يراقصني، وفي البحر قوارب تمنيت لو إليك تحملني، وبساطا انتظرت أن يأتي بك إلي".
لجأت إلى عشتار وهيرا وإيزيس وشهرزاد، فلم تجد حلا، " فسقط الحب في جب الحكاية، وظل للآنَ أحجية". الحياة كما تعلمون مدّ وجزر، فبعد أن آمنت بأقانيمه الثلاثة، عمدها بالأرق مع الفجر، وأسلمها للنهر، " ووحده الموج حن على أشلائها، ومنحها حق الغرق". نعم قهرها الموج مرارا، ولكنها "كالعنقاء من بين الركام تقوم". وفي إحدى الومضات، تشعر بيأس لأنهما تباعدا " كخطين متوازين، لا أحد يود أن ينكسر..كالنهر الذي فقد مجراه أنت.. كالسكة التي غادرها قطارها أنا "، فأصبحت وحيدة "، وحيدة، حتى أنني لم أعد أعرفني". كل شيءٍ هائم، أما الحب فقد قرفص، "وكل شيء عائم، إلى أن أعثر..على من تعشقه الأذن قبل العين"، فنفتتح مهرجان العودة. مع كل هذا، لم تردعها الحسرة، والذكريات المدمرة عن أن تعلن "أن قلبها وطن"، وهي مدمنة، فكلما وأدت حبا ولد اثنان، "فقد آن الأوان أن أحاولك مرّة أخرى.. لأحاور شهر ياري ..من الليلة الألف للحكاية"...
وفي نهاية الومضات تهتف...في الشعر ما خفي كان أعذب
الكتابة فعل بقاء
سأمضي لأفضح الصمت"


02.04.2015



دراسة وصفية فنية في إبداع ريتا عودة ,




دراسة وصفية فنية في إبداع ريتا عودة
د. عمر عتيق


ريتا عودة
شاعرة وقاصّة من مواليد النـّاصرة (1960) . مدرسة للغة الانجليزية في المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة. حاصلة على شهادة اللقب الأول في اللغة الانجليزية والأدب المقارن من جامعة حيفا(1984). فازت بالمرتبة الأولى في مسابقة لكتابة قصيدة "الهايكو" و"الهيجا" على مستوى العالم. الإصدارات :1) ثورة على الصّمت . وزارة الثقافة والمعارف ، الناصرة ، 1994 2) مرايا الوهم. المدرسة الثانوية البلدية الناصرة 1998 3) يوميات غجرية عاشقة . دار الحضارة ، القاهرة، 2001 . 4) ومن لا يعرف ريتا . دار الحضارة ،القاهرة ، 2003 5) قبل الإختناق بدمعة . دار الحضارة ، القاهرة، 2004 . 6)سأحاولكِ مرّة أخرى .بيت الشعر الفلسطيني ، رام الله ، 2008 7) أنا جنونك .(مجموعة قصصيّة). بيت الشعر الفلسطيني ، رام الله، 2009. ولها عدد من المجموعات القصصية الكترونيّة: بنفسجُ الغربـــَة. (رواية قصيرة) 2008. طوبى للغرباء(رواية قصيرة)2007 سيمفونية العودة(رواية) 2010 . تُرجم عدد من نصوصها إلى العبرية والفرنسية والفارسية والألمانية والايطالية والصينية .
قصائد الهايكو والهيجا
نوعان من القصائد منتشرة في اليابان، فقصيدة الهايكو قصيرة جدا، أما الهيجا فهي صورة مع قصيدة . وفي كل شهر تعلن الجمعية اليابانية للهايكو والهيجا عن مسابقة عالمية في كتابة قصائد من هذا النوع. وقد حصلت ريتا عودة على المرتبة الأولى على مستوى العالم في كتابة قصائد الهايكو، أما في قصائد الهيجا فقد تمّ اختيار اعمالها بين العشرة الأوائل غير مرّة .( )
إشراقات أسلوبية في شعر ريتا عودة
يحفل النص الشعري / النثري بالتناسل الدلالي ( التناص ) الذي يكشف عن وعي الشاعرة بالآفاق المعرفية من جهة ، ويقتضي من المتلقي مضاعفة يقظته لمحار المعنى المخبوء في أصداف اللغة ، ويجعل التناص من النص طبقات دلالية أو مرايا تأويلية . ومن تجليات التناص استدعاء معجزة السيد المسيح حينما جعل خمسة أرغفة تكفي لإشباع آلاف الجوعى في قولها ( خمسة ُ أرغفة/ قد تصنع معجزة/ فتطعم شعبًا مِنَ الجياع/ لا ..لن أغفر لكَ) . ( ) وذلك في سياق وجداني مشبع بالعتاب "لحبيب" تخلى عن وعده في تحقيق معجزة الحلم الموعود، فالربط بين معجزة السيد المسيح ، وسراب الوعود يجسد المفارقة بين الحقيقة الخالدة ، والوعود الكاذبة في الخطاب الاجتماعي. وتلوذ الشاعرة بعذابات السيد المسيح كي تمنحها صبرا في فاجعة قلب وخيبة حلم وانكسار انتظار في قولها: (انحنت سيقان قمحي، التي ضجَّتْ بالغرور دهرًا/ حصدَ شوقي / ناولني صليبًا من خشب النسيان.) ( )وتستهل قصيدة ( أرض الشك كروية ) بتعويذة مستدعاة من مشهد تقديم الهدايا من المجوس للطفل يسوع في المغارة في قولها :( أأخذلُ المجوسَ الذين أتـّوا مغارة ميلادنا/ ليقدموا لنا ذهبًا ولبانًا ومرًّا؟)( ) وتستدعي طقوس " التعميد كي تكون بلسما لنزيف الذاكرة في قولها :( أُبَ عْ ثِ رُ/ أَوْرَاقَي بِفَوْضَى / وَأَسْتَلُّ مَا أَشَاءُ / مِنْ جِرَاحِي / لأُعَمِّدَ الذَّاكِرَة ) . ( )وتتسم مرجعية التناص الديني بتنوع الديانات ، فمرجعية ما تقدم هي الانجيل ، وفي قولها :( (هذي جراحي/ فادخلوها آمنين) ( )إشارة إلى نص من القرآن الكريم . وتستمد من التوراة الوصايا العشرة في قولها :( لا/ تكسر الوصايا العشر/ المنقوشة/ على أبوابِ قلبينا/ لئلا/ نرتديَ أقمشةَ اللعنة/ فتتوارثها الأجيال). ( )لتشير إلى تخلي " بني إسرائيل " عن الاستحقاقات الإنسانية والأخلاقية للوصايا العشر . وتعبر عن التعالق بين الإنسان والأرض بالتناص الرقمي في قولها : (( عنْدَمَا أَدْخُلُ الْجَنَّة / أَوَدُّ أَنْ يَظَلَّ / صُنْدُوقُ بَرِيدِي /1948 / كَيْ يَسْتَدِلَّ حَبِيبِي / عَلَى عُنْوانِي ) ( )وتبرز في قصائد ريتا عودة تقنية التحوير اللغوي حينما تعمد إلى تغيير كلمة في المثل أو المقولة الشائعة لينسجم المعنى مع السياق الدلالي للقصيدة ، نحو : (أتيتُ قاطعة ً الشكَّ بالحنين...".) ( )ولا يخفى أن قولها تحوير لمقولة ( قطع الشك باليقين ) .و (أحبُّكَ بالثلاثة / وأحلمُ / أن نعبرَ / نهرَ العناء/ لنعودَ إلى أرض ِ العسل) ( ) وقولها ( أحبك بالثلاثة) تحوير لمقولة ( الطلاق بالثلاث ). وفي جل الدواوين تتجلى تقنية التشكيل البصري في لغة القصيدة ؛ إذ تعمد الشاعرة إلى كتابة الكلمة بأشكال فنية تنسجم مع الحالة الوجدانية ، نحو: ((كُلَّمَا فَاضَ نِيلُكَ / عَلَى ضِفَافِي/ أَخْتَارُ طَوْعًا / أجْمَلَ/ عَلَى لَهَبِ شَفَتَيَّ/ وَأَقْذِفُهَا دُونَمَا طُقُوسٍ/ إِلَى حِضْنِ أَمْوَاجِك/ إِلَى أَنْ
تَ
هْـ
دَ
أَ
عَ. وَ. ا. طِ. فُ. كَ ) ( )

وتقطيع الحروف وكتابتها أفقيا ورأسيا يضاعف من يقظة المتلقي لدلالات تعجز عنها الكتابة المألوفة.

وتجسد الشاعرة الصراع بيت حرية المرأة والبعد الذكوري في الثقافة الشرقية بمكونات " لعبة الشطرنج" في قولها : (أيّها الطائر الشرقي/وحدي أنا مَدَاكَ/ غافلتُ الجنود والملك والوزيرين والملكة/ وتسللتُ من القلعة / أتيتُ قاطعة ً الشكَّ بالحنين.)( ) وتسجل موقفا رافضا للثقافة الطائفية المؤسسة على تحريم زواج الفتاة من غير طائفتها الدينية كما يتجلى في قولها :( عندما اخترتك / لتكون تاج كرامتي /لم تؤرقني سهام القبيلة / ولا الألسن الصفراء الكثيرة/ لم تشغلني / بطاقة ديانتك .) ( )

صورة " الآخر في مجموعة ( أنا جنونك)
تحفل قصص المجموعة برصد مشاهد تصويرية تجسد البنية الفكرية والنفسية لليهودي ، وترسم أبعادا نفسية تكشف عن إشكالية " التعايش" بين الفلسطيني واليهودي ، وتجسد التحديات القومية التي يكابدها الفلسطيني على أرضه في ظل " الجوار القسري" بينه وبين اليهودي.وتتخذ المشاهد التصويرية ثلاثة مسارات ؛ الأول : صورة اليهودي العسكري الذي يستدعي همجية الاحتلال ومعاناة الضحية ، كما في قولها : (قميصَهُ الَّذي دلَّ على كونِهِ جنديًّا أثارَ فضُولِي، فبدأَتْ تتراقصُ في ذاكرتِي صُوَرُ أجسَادٍ مَبْتُورَة، وبيوتٍ مُهَدَّمة. دمُوعٌ، هلعٌ، دَمٌ. صُوَرٌ تُطَالعُنَا بِها النَّشراتُ الإخباريَّة كلّ يوم) . ( )والثاني : ثقافة العنصرية المؤسسة على ثنائية استعلاء اليهودي ودونية العربي ،إذ تحرص العنصرية على تشويه الحق الإنساني الفطري ، نحو حق الفلسطيني في التعليم الجامعي في قول الكاتبة : (أتظُنُّ أنَّ العِلْمَ لنا؟ نحنُ (في نظرهِم) دونَ مستوَى الالتحاق بالجامعات. نحنُ عُمّالُ نظافة لا أكثر.) ( )والثالث : ثقافة الحقد والكراهية التي يشكلها الفكر التوراتي المحرف الذي يسعى إلى تغييب الفلسطيني وتهجيره ، كما يحدث في " الناصرة العليا ذات الأغلبية اليهودية، فالتفوق الديمغرافي في بعض المدن يشجع اليهودي على إظهار كراهيته وحقده ، وبخاصة في الأعياد الدينية لليهود ، كما حدث في " عيد الغفران " في وصف الكاتبة :( متى نخرج من هذه الكارثة؟ هل سيقذفون الحجارة علينا؟... مررنا بهم. مجموعات من الأطفال لم نرَ من وجوههم إلاّ قُبّعَات صغيرة تُغطّي قمة رؤوسهم. لم يَرونا. ... تُرَى، ما العلاقة بينَ الدين والحجارة؟ )( ) وتسجل قصص المجموعة مفارقة حادة بين دلالات المسارات الثلاثة لدى اليهودي والثقافة الاجتماعية الحضارية لدى الفلسطيني حينما يتجلى الشعور بالشفقة على العجوز اليهودية التي تعاني من الوحدة ، ولا أحد يزورها إلا في الأعياد، والتعبير عن " حسن الجوار " مع الجارة اليهودية المصرية وابنها " يوسي " ، وهو جوار اجتماعي لا يقبل حديثا في السياسة كيلا يخسر الجارُ جارَه . ( )
اللغة الشعرية في النص السردي
حينما يشرع المبدع بتشكيل النص لا يستطيع أن يسجن الدفقات الإبداعية والأطياف النفسية في دائرة لغوية محددة ؛ فكل دفقة شعورية تقتضي شكلا لغويا وأسلوبيا يندغم معهما. فلا وجود لفروق " مقدسة " بين لغة القصيدة ولغة القصة ، واستئناسا بما تقدم فإن لغة قصص المجموعة تنبض بإيقاع الشعر ، وتعبق بالصورة الاستعارية ، وتمنج المتلقي أفقا لتحليق خياله ، وتوليد معان تعجز عنها اللغة المعيارية التي يتوهم بعض النقاد أنها لغة القصة . وتأتي لغة الشعر التصويرية في القصة في المشاهد الوجدانية الأكثر توترا وكثافة ، نحو (انتظرْتُ صوتَهُ يُضيءُ عتمةَ حواسّي. انتظرْتُ رائحةَ عَرَقِهِ تُخَدِّرُ صَمْتِي). ( )كما تُضمر دلالات رمزية تشكل عصبا رئيسا في الرؤية الفكرية للقصة ، نحو (أنت سنونوتي ما دام في الأفق جناح يخفق، وأنا نورسك ما دامت الشواطئ ميادين ثورتي) ( )وتحفل لغة القصص بتقنيات تبادل الحواس ، وإعادة صياغة عناصر الوجود ، نحو(هزمني ذبولُ صوته. انتفضتْ عصافيرُ صغيرة كثيرة داخل قضبان قلبي وصرختْ بي: "مجنونة! هو يحبّك) ( )
الفضاء الدلالي
ترصد الكاتبة المفاصل الرئيسة للسياقين الاجتماعي والسياسي ؛ فتعرض النتائج الإنسانية للبطالة والفصل من العمل ، والفجوة الطبقية التي تتجلى في ثنائية الترف والحرمان. وتصور دموية المشهد السياسي من اعتداء وهدم بيوت واعتقالات تعسفية . ومصادرة الأرض والنزوح والنفي . وتصور همجية الاحتلال وسلوكه السادي في الحواجز العسكرية التي تشهد موت المرضى الذين يُمنعون عن اجتياز تلك الحواجز. ( )
تصاعد وتيرة الحدث
يتميز المستوى اللغوي بتقنيات أسلوبية تمنح الفضاء السردي كثافة في الحدث بوساطة الجمل القصيرة المتلاحقة التي تقترب من اللقطات السينمائية المتسارعة ، وتقترن كثافة الحدث وتسارعه بكثافة التموجات النفسية للشخصية ؛ إذ يشترك نمو الأحداث والتموجات النفسية بالصعود والكثافة ، نحو : (دخلتُ المطبخ. خرجتُ. عُدْتُ إلى غُرْفَةِ النّوم، إلى الشّرفَة. جَمَعْتُ الغَسيل. أغْلَقْتُ النّوافذ. عدتُ إلى المطبخ. غَسَلْتُ الأطْباق. لقد تأخرَ زوجي! قالَ إنّهُ سيعود اليوم منَ العمَلِ مبكرًا. لماذا تأخرَ؟ تُرى ماذا أحْمِلُ لَهُ ؟علبة التبغ؟ الجريدة؟ بنطالاً آخر؟ ) ( ) التناص ( التناسل الدلالي) في النص السردي
تتوزع المشارب الثقافية التي أسهمت في تشكيل الرؤية الفكرية السردية إلى مرجعيات مختلفة ، ومن أبرزها المرجعية الوطنية التي تختزل مفاصل القضية الفلسطينية ، نحو استعداء شخصية الشهيدة لينا النابلسي التي استشهدت في نابلس ( 15 أيار 1976 )في قولها :(عادَتْ (لينا) تبكي. تذكرتُ القول: "شعبُ لينا لن يَلينا".)( ) في سياق قصة " أرض البرتقال " التي صورت اعتداء اليهود على العرب في عيد الغفران في الناصرة العليا . ولا يخفى التعالق الدلالي والنفسي بين استدعاء الشخصية وبؤرة الحدث .
وفي قصة ( وقد لا يأتي ) تربط الكاتبة بين " نكبة " المرأة ثقافيا حينما تُحرم من الزواج من رجل من غير دينها ونكبة فلسطين في قولها ( مرّ بي ستون احتضارا، وما زالت عيناي معصوبتين.) ( )انطلاقا من أن الانحطاط الثقافي سبب في الهزيمة السياسية .وترصد التفاوت المؤلم بين خطاب تاريخي مشرق ، وخطاب سياسي مظلم في قولها : (آ آ آ ه يمّا! درس التاريخ كان صعبًا للغاية اليوم! المدرّس كان يتحدث بصوت رخيم عن (صلاح الدين الأيوبي). ( ) وتتكئ على البعد الأسطوري في غير موضع ، نحو تحوير أسطورة صخرة " سيزيف " في سياق الإصرار على مواجهة الاحتلال في قولها : (رميتُ الصخرة خلفي وأنا أصعد إلى القمة.) ( )وامتصاص أسطورة إيكاروس وابيه ديدالوس اللذين كانا سجينين في قلعة في جزيرة " كريت " في قولها من قصة ( محكومون بالأمل :( لا أخشى إلا أن يذوب الصمغ عن جناحيّ وأنا أقترب من الحقائق برشاقة. تمطّى ظلٌّ قربي، وارتفع صوت ينخر ضميري.) ( )
وتتجلى ثقافة التوحيد في حنايا القصص ؛إذ يشكل القرآن والإنجيل نسيجا ثقافيا في الرؤية السردية ، فتستدعي آيات من القرآن الكريم تصل إلى درجة الاقتباس ، نحو(ويلاه!" صرخَ، فخيّل إليه أنَّ السماء انفطرت، والنجوم انتثرت، والبحار فُجّرت، والقبورُ بُعثرتْ) ( )وتستحضر المشهد المأساوي لقتل يوحنا المعمدان على يد ابنة هيروديا( سالومي) في قولها : (تجمَّدَ الألمُ في عروقي. تراختْ كلُّ عضلاتي المتشنجة. سقطتْ صورةُ (سالومي) التي سَعتْ من خلال رقصةِ إغواء لقطعِ رأسِ المعمدان). ( )




مراجع الدراسة
1-دلة ، بطرس : مع الشاعرة ريتا عودة (قبل الاختناق بدمعة ) . صحيفة الأخبار 18/4/2008
2-عودة، ريتا : مرايا الوهم. . المدرسة الثانوية البلدية الناصرة 1998
3-عودة، ريتا : قبل الاختناق بدمعة. دار الحضارة ، القاهرة، 2004
4- عودة، ريتا : يوميات غجرية عاشقة. دار الحضارة ، القاهرة، 2001
5-عودة ، ريتا: مجموعة أنا جنونك . بيت الشعر الفلسطيني ، رام الله، 2009



الخميس، 16 أبريل 2015

سيرة العاشقة المصلوبة.. قراءة في نصّ ” طوبى للغرباء..” للكاتبة ريتا عودة .. بقلم: الناقد الحبيب بالحاج سالم





سيرة العاشقة المصلوبة ..
قراءة في نصّ “طوبى للغرباء.” للكاتبة/ ريتا عودة"
بقلم: الناقد الحبيب بالحاج سالم


تقديم :
“رواية قصيرة جدا..” تحدّ مصطلحيّ أجناسيّ مدمج لمعايير الكتابة الأقصوصيّة والكتابة الرّوائيّة والكتابة الشعرية جعلته الكاتبة من عتبات هذا النّصّ القصير قصر اللحظة، الطويل طول الحياة، بل طول الغربة تقتضي رواية لكتابة تاريخ للغربة..غربة فرد/امرأة /رسولة/قديسة مجنونة عاشقة مضطهدة متمردة رومانسية خارقة.. هي قصة رواية أو مشروع رواية لم تكتب أو لم تبدأ كتابتها أو لم تنته أو تأبى أن تكتب : ” تتثاءب حروف الرواية
طوبـــــى للغربــــــــاء…
تدغدغني..”
طوبى للغرباء…ليس العنوان مجرّد استعارة حديثيّة /رسوليّة وإنّما هو عتبة أخرى موجّهة مساعدة مقدمة لمفتاح قرائيّ تأويليّ لنصّ من تلك النصوص التي تحبّ أن تقرأها ولا تريد أن تفلفهم والإفهام والإخضاع لمنهج في التّحليل وإنتاج المعنى، لأنه حالة محاكية لحالة، محدثة في نفسك لحالة من الصّمت والخشوع والامتلاء بكاء ومهابة وتعظيما للإنسان/النبيّ في صورة امرأة هي كل النّساء وكل الرّجال، وهي الإنسانيّة كافّة.. رواية من حيث زمنها الخبريّ (قصّة حياة..) أقصوصة من حيث زمنها القرائيّ (دقائق..) جامعة بين الأثر الأقصوصيّ والأثر الدراميّ والأثر الشّعريّ، لأنها صادمة صاعقة “مفحمة” إفحاما فنّيّا نادرا..
يمكن أن تدخل كونها من أبواب كثيرة، لكنّ تلك الأبواب إن لم تفض إلى الجوهر، تكون قد جزّأت وفصلت وفصّلت، فيضيع الكلّ، الكلّ الدالّ مجتمعا ملتئما.. فلك أن تقرأها قصة أنوثة مضطهدة، أو أمومة مقهورة، أو أبوّة قاهرة، أو زوجيّة بائسة، أو طفولة موؤودة، أو ذكوريّة مستبدّة، أو حبّ سرّي ممنوع، أو اعترافات، أو مذكرات بلا تاريخ، أو أدبيّة مستعصية، أو رقابة خارجية أو ذاتيّة، أو وجود بلا معنى، أو أحلام مستحيلة، أو جنون امرأة، أو جنون مجتمع ومؤسسات.. ولكن كل هذه العناصر هي ظلال للمعنى، لا المعنى، ولم تكن غاية الكاتبة أن تكشف أو تصلح أو تدين..بل أن تكتب رواية ..رواية بتقنية أخرى، غير ما تحدده ” المعاير الدّوليّة..”وأن تكتب “رواية كونيّة” تندمج فيها كل أبعاد الوجود الإنسانيّ، وتحضر فيها كلّ الأصوات، ويختزل فيها التّاريخ كلّه في لحظة هي لحظة تذكّر، لأن الرواية في اصطلاح كاتبتنا، “سيرة ذاتيّة “مثقوبة” فيها فراغات كثيرة وقفزات كثيرة ونسيان وانتقاء وتداخل والتباس وتشتّت وتشظّ وامتناع، و” أحداث قليلة” و”أقوال كثيرة”..وهذا ما يجعلها حكاية أصوات لا حكاية أشخاص.. وهذا يبعّد ويجرّد ويخفي مألوف الملامح، لتكون القصّة قصّة الإنسان/ النبيّ الغريب المصلوب الحامل آلام الإنسانيّة الصّاعد إلى حيث المخلّص والخلاص، في حياة هي الحياة، غير هذه الحياة..حياة الآلام ولا شيء غيرها..لأنها هكذا ينبغي أن تكون..هي قصة الخروج من الجنّة، وقصّة الرجوع إليها..وليست هذه زاوية قراءة ميتافيزيقيّة مسقطة، بل هي ما دفع ووجّه الكتابة/القراءة، ورسم الإنسان والكون، الإنسان في الكون..وكذا تفعل كلّ الآداب..ولذلك اتخذت الكاتبة من الحنين والسّرد الاستعاديّ المستعصي لطفولة كانت هي الأبد (ها أنا أسعى لأستردّ نبيذ حكاية تعتقت في خوابي العاطفة…) أفقا كتابيّا مداره البحث لاستعادة الفردوس المفقود..وما من سبيل إلى تلك الاستعادة إلاّ الذّاكرة : ها أنا أعود لمهد طفولتنا كي أبحث عنك…
وهكذا تنعكس كتابة الذّاكرة على إنشائيّة السّرد، لتكون صورة لها ومحاكاة لتداعياتها وتوارد ما استقر فيها، ليتاح ويظهر بحسب منطق الذّاكرة الباطنيّ الذي يجد في “نظام الحكي” بعض ظلاله وفوضاه…
التّشظّي الزّمنيّ..هكذا تحدّثت الذّاكرة..
” في الوقتِ متسعٌ لأسرد لكَ حكاية موعدي مع الذاكرة, حينما أورقت العاطفة وبرعمت دونما سابق انذار, ففاحَ أريجُ الحبّ الذي ترصد بحري المضطرب الى أن أوقع ببعض الأسماكِ في شبكة الرومانسية …”
هكذا تصوغ الكاتبة برنامجها الكتابيّ وتكتب عقدها مع مخاطبها ومعنا، لأنها إياه وإيانا تعني (أسرد عليك..) فالكتابة عندها موعد نادر مع الذاكرة العصيّة الضّنينة :”لي موعد مؤجل مع الذاكرة..”
هي لا تكتب بإرادة تذكّر عقلانيّة تسجيليّة مثلما يحدث في السّرد “التسجيلي” الوقائعي المنطقيّ، بل تكتب ما يمكن أن يطفو ويمنح نفسه وتطلقه الذّاكرة من إساره ..فتكون الكتابة فعلا تذكّريّا تحويليّا أليما مضنيا، لأنّه مزدوج الوجود من حيث هو مادّة كامنة في قعر الذاكرة، ثمّ مادة كلاميّة /نصّيّة مسكوبة فوق الورق :
” قررتُ أن أتجاهل ندائها الملحّ وأن أفرغ من أوجاع الذاكرة في أن أسكبها فوق الورق ، لعلّ حبيبي يقرؤها، ويذكر أن ليلاه تحترق نهارا وليلا…” فجاءت الحكاية “ذكرى موجعة تلو الأخرى..” لا معيار في سردها إلا منتهى الوجع :”رحت أستعيد الذكريات الأكثر وجعا…” واتّخذت الكاتبة من هذا المعيار ما به “رتّبت” الأحداث في الخطاب، فلم يكن التّوالي الخطابيّ مطابقا للتّوالي الخبريّ، وهذا متوقّع واختيار فنّي “كلاسيكيّ” ولا ينبغي أن نعتبره مزيّة هذا النّصّ، لأنّ مزيّته الحقّ هي في ” نظام الفوضى” السّرديّة المعتمدة، وهو نظام ينشأ منزّلا على لحظة من محور الزّمان نعلمها تلفّظيّا (زمن الحكي الحاضر مطلقا) ولكن لا نعلم ما اللحظة المطابقة لها أو السّابقة (لأن التّزامن غير ممكن غالبا..) على محور الخبر (الأحداث).. وهذا الامتناع أو العسر السرديّ/التذكّريّ لهو من المداخل الممكنة لاكتشاف الكون الخطابيّ /السرديّ الدّلاليّ الناشئ على ركام ذكريات تنتزع انتزاعا، فتشكّل خطابا اعترافيّا في حضرة الرّبّ :
“أيّها الرّبّ! ها أنا أعترف أنّي أقترف الحنين لرجل مختلف…”
ولأنّ الحنين “إثم” تكون كتابته “إثما” وممارسة سرّيّة ممنوعة ممتنعة في ” كون شرّير..” يعاقب العاشقين وينفيهم، ليحيوا غرباء، ثمّ يصلبون… وفي كسر وانكسار لخطّيّة الزّمن والأحداث، تستعاد هذه الأحداث انطلاقا من حوار بين “الغريب” و “الغريبة” (بين حنّه وفادي..) بين عالمين منفصلين متباعدين تلتبس فيهما الحياة بالموت أو عالم الاحياء وعالم الأموات.. وهذا الالتباس مقصود بل جوهريّ، ويتنزّل في صميم وعي الشخصية ووجهة نظرها المتعلقة بالسؤال الوجوديّ/الكونيّ: ما الحياة؟ ما الموت؟ من الحيّ؟ من الميّت؟..
” أرعبتني الفكرة فما زلت أسعى للتحرر من هذا القبر رغم هذا الوهن الجسدي..”

” رحلتِ …
فرحلتِ الطيور والزهور والفراشات الملونة
وبقيتُ وحدي، أتوسل الأفق أن يأتيني بقوس قزح.
أجرجر الذاكرة خلفي…”
وبواسطة هاتف عجيب يكون التّواصل بينهما و” كلٌ على طرف آخر من أقطابِ العاطفة…” وهذا التّواصل هو سؤل السّاردة/الشّخصيّة والمحرّك لفعلها.. وتتلاحق الأحداث المستعادة موزّعة توزيعا لا تتكافأ فيه الفصول الثّلاثة :


الفصل1
تظهر فيه شخصية الزوج في صورة تقترن بسلطة المؤسسة الاجتماعيّة الرّقابيّة القمعيّة القاهرة للحبّ والكتابة…

الفصل2 تظهر فيه شخصيات جديدة هي وجوه أخرى للزوج (الأب/الأخ/الطبيب/الطبيبة..) وفيه يكون الجنون هو التشخيصية العقابيّة التي تمارسها المؤسسة العلاجية ضد “المنحرفين” عن نهج الحياة ..وتتراكم أحداث تتوغّل بنا في ماضي الشخصية (طفولتها وقتل أبيها أمها وسجنه واضطرارها للعمل لتعيش وتدرس ..)ثم الرجوع إلى أحداث أقرب (الإقامة في المستشفى والخروج والرجوع إلى بيت الأخت والعلم بتطليق الزوج إياها..)

الفصل 3
تخصّصة الساردة لقصة الحبّ وموت الغريب/الحبيب…
وكان آخر ضراعتها ودعائها:
“لا ترحل حبيبي قبل ان ترفعني اليك…”
وهذه الاستعادة التذكّريّة الانتقائيّة التّرتيبيّة بحسب منطق ما (الأكثر فاجعة..) ينزّل موت الغريب/الحبيب في الذّروة من حيث الفاجعة، لأنّه كان شرط الغربة الكاملة، وأقصى الصّلب..لذلك ” أرجأت” حكيه، وكان آخر ما ترويه الشخصية، لأنّه موجع لها ولنا، ويمثّل “السّقطة” الختاميّة المضيئة للقصّة حتّى تعاد قراءتها على وجه آخر..
فالقصّة، على تنوّع أحداثها وكثرة تقلباتها، ما هي إلا تشكّل للغربة، بعزلة الشّخصية وعزلها عن كلّ “مساعدة” (إلا ما كان من الأخت والصديق في المشفى، ولا يرتقي عملهما إلى مستوى العمل الدافع أو المغيّر لوجهة الأحداث وحتميّة المصير..) وهذا “العزل” به تكون البطولة الكاملة والغربة الكاملة والوحدة الكاملة، لتتجلّى الشخصيّة /البطلة في كلّ بهائها التراجيديّ وكمامل وعيها الفاجع بمنزلتها في الكون: وحيدة أتيت الى هذا الكون الشرير..
وحيدة سأغادره…
وبين الإتيان والمغادرة أو النّزول والارتقاء، مساحة وجوديّة للألم والانتظار والضّراعة والابتهال والصّلاة.. لذلك فلا معنى للأحداث إن لم تتحوّل بصوت الشّخصيّة وعيا وطهرا وألما وصلاة :
أيّها السماويّ :
أعدني الى صدر حبيبي
فقد طالت غربتي ,
ولفظتني المنافي.
أيّها الغريب ,
عد …
أو أطلق يمامة العشق
كي تأتيني بنبوءة كونك في انتظاري.
في انتظاري…
هذا أنموذج من صلوات الغريبة بين الفاجعة والفاجعة، وهي تنتظر المخلّص والخلاص والفادي يعود ليرفعها إليه، وتسير وعلى ظهرها صليبها في طريق الجلجلة..فينفتح السرد على الشعر، ويتماهى الإنسان والنبيّ والرّبّ، وتندمج السيرتان اليسوعيّة المحمّديّة في نشيد خلاصيّ رهيب جليل… بنية الفواعل…الغريبان/الحبيبان ومن بينهما…
تنبني شبكة علاقات بين الذوات في هذه القصّة مركزها حنّة/ الغريبة الشفافة ..الحالمة..الرقيقة..الأنثى المشتهاة..الملقاة على مزبلة الأيّام..الضعيفة..النّاشدة “حبّا في نقاء حبات المطر…”المفتقدة حبيبا نبيّا كان ثم ارتفع أو صّلب، وهي في غيابه غريبة منتظرة..أو هي الرّسولة /الغريبة تتماهى مع سير الأنبياء لتلعن نظاما ومصيرا وتحلم بنظام ومصير مختلف…” آه كم افتقدتُ هذا النبض !!
آهٍ كم افتقدت دفء ابتسامته
وجهه الطاعن بالبراءة
وكأن به وجه نبيّ.
ويل لي أنا الغريبة التي لم تملك يوما من الحبّ كفافَ يومها.
ويلٌ لي أنا الأنثى المشتهاة الملقاة في مزبلة الأيام.
ويلٌ لهذه الصدفة التي جمعت بيننا كلٌ على طرف آخر من أقطابِ العاطفة.
ويلٌ لي كيف سأقاومُ بعد اللحظة ضعف الأنثى وهي تواجه حبّا في نقاء حبات المطر…”
وتجد الغريبة في غربة المسيح نبراسا وهديا، فتقرؤها، وبها تقتدي، وإيّاها تكتب، لأنّها غربتها :
ها هم يجرّونني الى صليبي المطروح أرضًا.
ها هم يدفعون هذا الجسد فوق الخشبة.
ها أنا أرتدي اللعنة.
ها يدٌ تضع السلاسل على معصميّ.
ها يدٌ أخرى تضرب المسمار في كف يدي .
أنزف..
أصرخ الى الرّبّ…
وتنبثق عنها، منها وإليها شخصيّة فادي/الغريب والحبيب..آدم فردوس الطفولة وفارس الصّبا والجمال.. متعال بموته في سمائه، يحضر هاتفا مشتاقا وروحا رسوليّة ووحيا سماويّا (وجهه الطّاعن بالبراءة وكأن به وجه نبيّ…) الوجه الآخر للنّبيّ الغريب في عليائه : ” طمئني الغريب أيا غريبة عن نبضِ الحبيبة!
ببطانيّة الوجد دثّريني …
دثّريني..
دثّريني…”
أمّا من بينهما، ففي منطق التّصنيف البسيط شخصيّات معرقلة، تتعدّد ولا تختلف، فليس الزّوج والأب والأخ والطّبيب والطّبيبة سوى وجوه لسلطة قمعيّة واحدة، متضافرة مكوناتها ل”صنع” الغربة، بكونها أيضا نفيا لها، أي نفيا للحبّ، للحياة حبّا..لله الحبّ..
وفي معسكر ضعيف توجد شخصيات مساعدة بلا قوّة، هي الأخت وابنتها والصّديق في المشفى والأم غريبة صامتة مضطهدة قتيلة… وبمنظور ما كلّهم قتلى أو موتى، لأنّ من سَلب الحياة ميّت، ومن سُلبها ميّت..
لذلك كتبت السّاردة قصّة الموت والموتى، توقا إلى الحياة الأبديّة…

19.03.2015

سيرة العاشقة المصلوبة

http://suomer.blogspot.co.il/2015/03/blog-post_83.html?spref=fb