سيرة العاشقة المصلوبة ..
قراءة في نصّ “طوبى للغرباء.” للكاتبة/ ريتا عودة"
بقلم: الناقد الحبيب بالحاج سالم
تقديم :
“رواية قصيرة جدا..” تحدّ مصطلحيّ أجناسيّ مدمج لمعايير الكتابة الأقصوصيّة والكتابة الرّوائيّة والكتابة الشعرية جعلته الكاتبة من عتبات هذا النّصّ القصير قصر اللحظة، الطويل طول الحياة، بل طول الغربة تقتضي رواية لكتابة تاريخ للغربة..غربة فرد/امرأة /رسولة/قديسة مجنونة عاشقة مضطهدة متمردة رومانسية خارقة.. هي قصة رواية أو مشروع رواية لم تكتب أو لم تبدأ كتابتها أو لم تنته أو تأبى أن تكتب : ” تتثاءب حروف الرواية
طوبـــــى للغربــــــــاء…
تدغدغني..”
طوبى للغرباء…ليس العنوان مجرّد استعارة حديثيّة /رسوليّة وإنّما هو عتبة أخرى موجّهة مساعدة مقدمة لمفتاح قرائيّ تأويليّ لنصّ من تلك النصوص التي تحبّ أن تقرأها ولا تريد أن تفلفهم والإفهام والإخضاع لمنهج في التّحليل وإنتاج المعنى، لأنه حالة محاكية لحالة، محدثة في نفسك لحالة من الصّمت والخشوع والامتلاء بكاء ومهابة وتعظيما للإنسان/النبيّ في صورة امرأة هي كل النّساء وكل الرّجال، وهي الإنسانيّة كافّة.. رواية من حيث زمنها الخبريّ (قصّة حياة..) أقصوصة من حيث زمنها القرائيّ (دقائق..) جامعة بين الأثر الأقصوصيّ والأثر الدراميّ والأثر الشّعريّ، لأنها صادمة صاعقة “مفحمة” إفحاما فنّيّا نادرا..
يمكن أن تدخل كونها من أبواب كثيرة، لكنّ تلك الأبواب إن لم تفض إلى الجوهر، تكون قد جزّأت وفصلت وفصّلت، فيضيع الكلّ، الكلّ الدالّ مجتمعا ملتئما.. فلك أن تقرأها قصة أنوثة مضطهدة، أو أمومة مقهورة، أو أبوّة قاهرة، أو زوجيّة بائسة، أو طفولة موؤودة، أو ذكوريّة مستبدّة، أو حبّ سرّي ممنوع، أو اعترافات، أو مذكرات بلا تاريخ، أو أدبيّة مستعصية، أو رقابة خارجية أو ذاتيّة، أو وجود بلا معنى، أو أحلام مستحيلة، أو جنون امرأة، أو جنون مجتمع ومؤسسات.. ولكن كل هذه العناصر هي ظلال للمعنى، لا المعنى، ولم تكن غاية الكاتبة أن تكشف أو تصلح أو تدين..بل أن تكتب رواية ..رواية بتقنية أخرى، غير ما تحدده ” المعاير الدّوليّة..”وأن تكتب “رواية كونيّة” تندمج فيها كل أبعاد الوجود الإنسانيّ، وتحضر فيها كلّ الأصوات، ويختزل فيها التّاريخ كلّه في لحظة هي لحظة تذكّر، لأن الرواية في اصطلاح كاتبتنا، “سيرة ذاتيّة “مثقوبة” فيها فراغات كثيرة وقفزات كثيرة ونسيان وانتقاء وتداخل والتباس وتشتّت وتشظّ وامتناع، و” أحداث قليلة” و”أقوال كثيرة”..وهذا ما يجعلها حكاية أصوات لا حكاية أشخاص.. وهذا يبعّد ويجرّد ويخفي مألوف الملامح، لتكون القصّة قصّة الإنسان/ النبيّ الغريب المصلوب الحامل آلام الإنسانيّة الصّاعد إلى حيث المخلّص والخلاص، في حياة هي الحياة، غير هذه الحياة..حياة الآلام ولا شيء غيرها..لأنها هكذا ينبغي أن تكون..هي قصة الخروج من الجنّة، وقصّة الرجوع إليها..وليست هذه زاوية قراءة ميتافيزيقيّة مسقطة، بل هي ما دفع ووجّه الكتابة/القراءة، ورسم الإنسان والكون، الإنسان في الكون..وكذا تفعل كلّ الآداب..ولذلك اتخذت الكاتبة من الحنين والسّرد الاستعاديّ المستعصي لطفولة كانت هي الأبد (ها أنا أسعى لأستردّ نبيذ حكاية تعتقت في خوابي العاطفة…) أفقا كتابيّا مداره البحث لاستعادة الفردوس المفقود..وما من سبيل إلى تلك الاستعادة إلاّ الذّاكرة : ها أنا أعود لمهد طفولتنا كي أبحث عنك…
وهكذا تنعكس كتابة الذّاكرة على إنشائيّة السّرد، لتكون صورة لها ومحاكاة لتداعياتها وتوارد ما استقر فيها، ليتاح ويظهر بحسب منطق الذّاكرة الباطنيّ الذي يجد في “نظام الحكي” بعض ظلاله وفوضاه…
التّشظّي الزّمنيّ..هكذا تحدّثت الذّاكرة..
” في الوقتِ متسعٌ لأسرد لكَ حكاية موعدي مع الذاكرة, حينما أورقت العاطفة وبرعمت دونما سابق انذار, ففاحَ أريجُ الحبّ الذي ترصد بحري المضطرب الى أن أوقع ببعض الأسماكِ في شبكة الرومانسية …”
هكذا تصوغ الكاتبة برنامجها الكتابيّ وتكتب عقدها مع مخاطبها ومعنا، لأنها إياه وإيانا تعني (أسرد عليك..) فالكتابة عندها موعد نادر مع الذاكرة العصيّة الضّنينة :”لي موعد مؤجل مع الذاكرة..”
هي لا تكتب بإرادة تذكّر عقلانيّة تسجيليّة مثلما يحدث في السّرد “التسجيلي” الوقائعي المنطقيّ، بل تكتب ما يمكن أن يطفو ويمنح نفسه وتطلقه الذّاكرة من إساره ..فتكون الكتابة فعلا تذكّريّا تحويليّا أليما مضنيا، لأنّه مزدوج الوجود من حيث هو مادّة كامنة في قعر الذاكرة، ثمّ مادة كلاميّة /نصّيّة مسكوبة فوق الورق :
” قررتُ أن أتجاهل ندائها الملحّ وأن أفرغ من أوجاع الذاكرة في أن أسكبها فوق الورق ، لعلّ حبيبي يقرؤها، ويذكر أن ليلاه تحترق نهارا وليلا…” فجاءت الحكاية “ذكرى موجعة تلو الأخرى..” لا معيار في سردها إلا منتهى الوجع :”رحت أستعيد الذكريات الأكثر وجعا…” واتّخذت الكاتبة من هذا المعيار ما به “رتّبت” الأحداث في الخطاب، فلم يكن التّوالي الخطابيّ مطابقا للتّوالي الخبريّ، وهذا متوقّع واختيار فنّي “كلاسيكيّ” ولا ينبغي أن نعتبره مزيّة هذا النّصّ، لأنّ مزيّته الحقّ هي في ” نظام الفوضى” السّرديّة المعتمدة، وهو نظام ينشأ منزّلا على لحظة من محور الزّمان نعلمها تلفّظيّا (زمن الحكي الحاضر مطلقا) ولكن لا نعلم ما اللحظة المطابقة لها أو السّابقة (لأن التّزامن غير ممكن غالبا..) على محور الخبر (الأحداث).. وهذا الامتناع أو العسر السرديّ/التذكّريّ لهو من المداخل الممكنة لاكتشاف الكون الخطابيّ /السرديّ الدّلاليّ الناشئ على ركام ذكريات تنتزع انتزاعا، فتشكّل خطابا اعترافيّا في حضرة الرّبّ :
“أيّها الرّبّ! ها أنا أعترف أنّي أقترف الحنين لرجل مختلف…”
ولأنّ الحنين “إثم” تكون كتابته “إثما” وممارسة سرّيّة ممنوعة ممتنعة في ” كون شرّير..” يعاقب العاشقين وينفيهم، ليحيوا غرباء، ثمّ يصلبون… وفي كسر وانكسار لخطّيّة الزّمن والأحداث، تستعاد هذه الأحداث انطلاقا من حوار بين “الغريب” و “الغريبة” (بين حنّه وفادي..) بين عالمين منفصلين متباعدين تلتبس فيهما الحياة بالموت أو عالم الاحياء وعالم الأموات.. وهذا الالتباس مقصود بل جوهريّ، ويتنزّل في صميم وعي الشخصية ووجهة نظرها المتعلقة بالسؤال الوجوديّ/الكونيّ: ما الحياة؟ ما الموت؟ من الحيّ؟ من الميّت؟..
” أرعبتني الفكرة فما زلت أسعى للتحرر من هذا القبر رغم هذا الوهن الجسدي..”
≠
” رحلتِ …
فرحلتِ الطيور والزهور والفراشات الملونة
وبقيتُ وحدي، أتوسل الأفق أن يأتيني بقوس قزح.
أجرجر الذاكرة خلفي…”
وبواسطة هاتف عجيب يكون التّواصل بينهما و” كلٌ على طرف آخر من أقطابِ العاطفة…” وهذا التّواصل هو سؤل السّاردة/الشّخصيّة والمحرّك لفعلها.. وتتلاحق الأحداث المستعادة موزّعة توزيعا لا تتكافأ فيه الفصول الثّلاثة :
الفصل1
تظهر فيه شخصية الزوج في صورة تقترن بسلطة المؤسسة الاجتماعيّة الرّقابيّة القمعيّة القاهرة للحبّ والكتابة…
الفصل2 تظهر فيه شخصيات جديدة هي وجوه أخرى للزوج (الأب/الأخ/الطبيب/الطبيبة..) وفيه يكون الجنون هو التشخيصية العقابيّة التي تمارسها المؤسسة العلاجية ضد “المنحرفين” عن نهج الحياة ..وتتراكم أحداث تتوغّل بنا في ماضي الشخصية (طفولتها وقتل أبيها أمها وسجنه واضطرارها للعمل لتعيش وتدرس ..)ثم الرجوع إلى أحداث أقرب (الإقامة في المستشفى والخروج والرجوع إلى بيت الأخت والعلم بتطليق الزوج إياها..)
الفصل 3
تخصّصة الساردة لقصة الحبّ وموت الغريب/الحبيب…
وكان آخر ضراعتها ودعائها:
“لا ترحل حبيبي قبل ان ترفعني اليك…”
وهذه الاستعادة التذكّريّة الانتقائيّة التّرتيبيّة بحسب منطق ما (الأكثر فاجعة..) ينزّل موت الغريب/الحبيب في الذّروة من حيث الفاجعة، لأنّه كان شرط الغربة الكاملة، وأقصى الصّلب..لذلك ” أرجأت” حكيه، وكان آخر ما ترويه الشخصية، لأنّه موجع لها ولنا، ويمثّل “السّقطة” الختاميّة المضيئة للقصّة حتّى تعاد قراءتها على وجه آخر..
فالقصّة، على تنوّع أحداثها وكثرة تقلباتها، ما هي إلا تشكّل للغربة، بعزلة الشّخصية وعزلها عن كلّ “مساعدة” (إلا ما كان من الأخت والصديق في المشفى، ولا يرتقي عملهما إلى مستوى العمل الدافع أو المغيّر لوجهة الأحداث وحتميّة المصير..) وهذا “العزل” به تكون البطولة الكاملة والغربة الكاملة والوحدة الكاملة، لتتجلّى الشخصيّة /البطلة في كلّ بهائها التراجيديّ وكمامل وعيها الفاجع بمنزلتها في الكون: وحيدة أتيت الى هذا الكون الشرير..
وحيدة سأغادره…
وبين الإتيان والمغادرة أو النّزول والارتقاء، مساحة وجوديّة للألم والانتظار والضّراعة والابتهال والصّلاة.. لذلك فلا معنى للأحداث إن لم تتحوّل بصوت الشّخصيّة وعيا وطهرا وألما وصلاة :
أيّها السماويّ :
أعدني الى صدر حبيبي
فقد طالت غربتي ,
ولفظتني المنافي.
أيّها الغريب ,
عد …
أو أطلق يمامة العشق
كي تأتيني بنبوءة كونك في انتظاري.
في انتظاري…
هذا أنموذج من صلوات الغريبة بين الفاجعة والفاجعة، وهي تنتظر المخلّص والخلاص والفادي يعود ليرفعها إليه، وتسير وعلى ظهرها صليبها في طريق الجلجلة..فينفتح السرد على الشعر، ويتماهى الإنسان والنبيّ والرّبّ، وتندمج السيرتان اليسوعيّة المحمّديّة في نشيد خلاصيّ رهيب جليل… بنية الفواعل…الغريبان/الحبيبان ومن بينهما…
تنبني شبكة علاقات بين الذوات في هذه القصّة مركزها حنّة/ الغريبة الشفافة ..الحالمة..الرقيقة..الأنثى المشتهاة..الملقاة على مزبلة الأيّام..الضعيفة..النّاشدة “حبّا في نقاء حبات المطر…”المفتقدة حبيبا نبيّا كان ثم ارتفع أو صّلب، وهي في غيابه غريبة منتظرة..أو هي الرّسولة /الغريبة تتماهى مع سير الأنبياء لتلعن نظاما ومصيرا وتحلم بنظام ومصير مختلف…” آه كم افتقدتُ هذا النبض !!
آهٍ كم افتقدت دفء ابتسامته
وجهه الطاعن بالبراءة
وكأن به وجه نبيّ.
ويل لي أنا الغريبة التي لم تملك يوما من الحبّ كفافَ يومها.
ويلٌ لي أنا الأنثى المشتهاة الملقاة في مزبلة الأيام.
ويلٌ لهذه الصدفة التي جمعت بيننا كلٌ على طرف آخر من أقطابِ العاطفة.
ويلٌ لي كيف سأقاومُ بعد اللحظة ضعف الأنثى وهي تواجه حبّا في نقاء حبات المطر…”
وتجد الغريبة في غربة المسيح نبراسا وهديا، فتقرؤها، وبها تقتدي، وإيّاها تكتب، لأنّها غربتها :
ها هم يجرّونني الى صليبي المطروح أرضًا.
ها هم يدفعون هذا الجسد فوق الخشبة.
ها أنا أرتدي اللعنة.
ها يدٌ تضع السلاسل على معصميّ.
ها يدٌ أخرى تضرب المسمار في كف يدي .
أنزف..
أصرخ الى الرّبّ…
وتنبثق عنها، منها وإليها شخصيّة فادي/الغريب والحبيب..آدم فردوس الطفولة وفارس الصّبا والجمال.. متعال بموته في سمائه، يحضر هاتفا مشتاقا وروحا رسوليّة ووحيا سماويّا (وجهه الطّاعن بالبراءة وكأن به وجه نبيّ…) الوجه الآخر للنّبيّ الغريب في عليائه : ” طمئني الغريب أيا غريبة عن نبضِ الحبيبة!
ببطانيّة الوجد دثّريني …
دثّريني..
دثّريني…”
أمّا من بينهما، ففي منطق التّصنيف البسيط شخصيّات معرقلة، تتعدّد ولا تختلف، فليس الزّوج والأب والأخ والطّبيب والطّبيبة سوى وجوه لسلطة قمعيّة واحدة، متضافرة مكوناتها ل”صنع” الغربة، بكونها أيضا نفيا لها، أي نفيا للحبّ، للحياة حبّا..لله الحبّ..
وفي معسكر ضعيف توجد شخصيات مساعدة بلا قوّة، هي الأخت وابنتها والصّديق في المشفى والأم غريبة صامتة مضطهدة قتيلة… وبمنظور ما كلّهم قتلى أو موتى، لأنّ من سَلب الحياة ميّت، ومن سُلبها ميّت..
لذلك كتبت السّاردة قصّة الموت والموتى، توقا إلى الحياة الأبديّة…
19.03.2015
سيرة العاشقة المصلوبة
http://suomer.blogspot.co.il/2015/03/blog-post_83.html?spref=fb
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق