أهلا بك في مدينة أحلامي !





ريتا عودة- شاعرة وقاصّة ومترجمة من مواليد النـّاصرة 29-9-1960 * حاصلة على شهادة اللقب الأول في اللغة الانجليزية والأدب المقارن. * تقوم بتدريس اللغة الانجليزية في المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة. * حصلت على المرتبة الأولى في مسابقة لكتابة قصيدة الهايكو على مستوى العالم. * حصلت على المرتبة الأولى في مسابقة "الهيجا" على مستوى العالم. * تملك موقعا على الشبكة الإلكترونية: http://ritaodeh.blogspot.com * تمت ترجمة نصوصها إلى العديد من اللغات عبر شبكة الإنترنيت. صدر لها : ثورة على الصّمت-1994 1994 - وزارة الثقافة والمعارف- الناصرة *مرايا الوهم 1998- المدرسة الثانوية البلدية –الناصرة *يوميات غجرية عاشقة 2001 – دار الحضارة – القاهرة * ومن لا يعرف ريتا 2003- دار الحضارة – القاهرة *قبل الإختناق بدمعة 2004 - دار الحضارة – القاهرة *سأحاولكِ مرّة أخرى بيت الشعر الفلسطيني - رام الله- 2008 *أنا جنونك-مجموعة قصصيّة بيت الشعر الفلسطيني - رام الله- 2009 مجموعات الكترونيّة: بنفسجُ الغربـــَة 2008-رواية قصيرة طوبى للغرباء-رواية قصيرة-2007 سيمفونية العودة 2010-رواية




أريدُ أن أحيَا

أريد أن أحيا:
أن أستيقظَ مع الفراشاتْ لأهيم على وجهي في الحقول،
ساعاتٍ وساعاتْ
أن أشاركَ المزارعين
في زرع بذور الأمنياتْ

أريد أن أحيا:
أن أصغي لصوت قطرات المطر
وهي تُعمِّدُ العشبَ والشجرْ
أن أفاوضَ الطيورَ على أجنحتها،
والناياتِ على نغماتها.


أريد أن أحلّقَ أعلى من النسور
أريد أن أغني أفضلَ منَ العَنادل وشتَّى أنواع الطيورْ

أريد أن أنتهرَ جرادِ الظلام
وكأنبياء العهدِ القديم
أدعو للوئامِ بين الأنام

أريدُ أنْ أفعلَ أشياءَ كثيرة عديدَة،
ولكنَّ صوت طلقاتٍ ناريَّة بعيدَة
يشوِّه كلَّ أحلامي



الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

قراءات انطباعيّة في تجربة الآخر// بقلم الأديبة ريتا عودة







عدنان الصائغ..
الشَّاعر الذي تأبَّط َ منفى


أكثر عناوين الكتب ذكاءً هي تلك التي تتبلور كعتبة أولى أمام النّص.
يندرجُ كتابُ " تأبّط َ منفى " للشاعر العراقي عدنان الصائغ تحت هذه الفئة.
فعنوانٌ كهذا, يُضيءُ أمام القارئ إشارة ً حمراء تستوقفه لتحيله مباشرة ً
الى عبارة " تأبّط شرّا" , فترتبط مفردة المنفى بالشرّ , وتسلمك مفتاح
النصوص التالية , بل وتلقي ظلالها عليها.

وهكذا, سرعان ما تضيء أمامك الشارة الخضراء,فتبدأ بعبور بواباتِ النصوص
متأبطًا لهفة َ سبر أغوار هذا المنفى المزدوج : حيث الوطن منفى , والمنفى موت,
والوجعُ واحدٌ ولو تعدّدَتِ التسميات.
أمّا الباب الأكثر الحاحا , لذا فهو الباب الأول الذي يطرقه الشاعر
كي يتيح لكَ أن تدخل مملكته لتلمس َ بعضا من أوجاعه
التي تشكلّ مرآة لأوجاع وطن بحاله, فهو ذلك (الخوف) من السلطان, الطاغية:


والعراقُ الذي نفتقد
نصفُ تاريخهِ أغان ٍ وكحلٌ..
ونصفٌ طغاة
(العراق-صــ 11)


وقد استحال هذا الخوف الى (رعب) أدّى الى معاناة الشاعر من شيزوفرينيا مرضية.
فهو يكتب بالفطرة لأنّه مسكونٌ بالكتابة ولأنّ قدر الشاعر النقيّ الذي التزم بقضية وطن وحمل على أكتافه همّا انسانيا أن تظلّ حروفه تمشي وعلى كتفيها الصلبان (صــ 50),لكنّ ( الرقيب الداخلي) لهذا الشاعر الملتزم , يصحو من اللاوعي كلما بدأ النزف, كي يحذره من عاقبة هذا الفضح المتعمد لأوجاع هذا الشعب العراقيّ الطيّب بل وأوجاع كلّ شعب ما زال صامدا تحت مقصلة الاستبداد المجحف:


في وطني
يجمعني الخوفُ ويقسمني:
رجلا ً يكتب
والآخرَ خلفَ ستائر نافذتي,
يرقبُني
(شيزوفرينيا- صــ 8)

أمّا الاحالة الى تاريخ هذه الومضة ,(1987), كغيرها من الاحالات, تبقى مؤشرا غير مباشر لهوية هذا الطاغية.



وهكذا نرى أن رعب الشاعر الذي قرر أن يتحدّى مقصلة الصمت , بنزفه , طغى على الديوان بحيث أنّه شكلّ موتيفا أساسيا له, فصار يرى أشباحا تتربص به لتقتنص من حياته, وظلّ الانتظار "طلقة مؤجلة"
(أشباح صـ 28), بل وتكرر هذا الانتظار المفخخ في أكثر من موضع:


( أقلّ قرعة ِ باب
أخفي قصائدي- مرتبكا- في الأدراج
لكن كثيرا ما يكونُ القرعُ
صدى لدورياتِ الشرطة التي تدورفي شوارع رأسي
ورغم هذا فانا أعرفُ بالتأكيد
أنّهم سيقرعونَ البابَ ذاتَ يوم
وستمتد أصابعهم المدربة كالكلاب البوليسية الى جوارير
قلبي
لينتزعوا أوراقي
و...
حياتي
ثم يرحلون بهدوء)
( هواجس - صـ 7)


نلاحظ تدفق الرعب على طول السطور:


* صدى لدورياتِ الشرطة التي تدورفي شوارع رأسي

*وستمتد أصابعهم المدربة كالكلاب البوليسية الى جوارير


بينما تنتصب المفردتين:( قلبي) ..و.. (حياتي) .. كلّ على سطر منفرد
كإشارتيّ طريق لهما الأهمية القصوى في وجدان الشاعر المهدد بالاغتيال كضريبة على صدق نزفه.
وهو يؤكد فكرة الشيزوفرينيا في أكثر من موضع , بل وتتشظى الذات الى عدّة ذوات في محاولة للتصدي لهذا القمع
فنراه يصرخ:


يا ربّي, كم بابًا يفصلني عنّي
(أبواب- صـ 5)


وهنا لا بدّ أن نتساءل: ما هو دور هذا الطاغية في بثّ سموم الرعب في النفوس وكيف ..؟!
فنجد الاجابة في "ثلاث مقاطع من الحيرة" يقول الشاعر في احدها:



الشارع ملغومٌ بالآذانْ
كلُّ أذن ٍ
يربطها سلكٌ سريٌّ بالأخرى
حتى تصل السلطانْ
(صــ 12)



وهل يملك الشعب الطيب المطحون جوعا سوى تمجيد هؤلاء الطغاة سواء عبر الكلمات( الأدعية) أو عبر نحت (التماثيل) لهم في الساحات العامة :


يطلقون ( الطغاة) قهقهاتهم العالية
على شعب يطحنُ أسنانه من الجوع
ويبني لهم أنصابا من الذهب والأدعية
(ثلاث مقاطع من الحيرة- صــ 14)



وهل يفطن الطاغية الى وجود هؤلاء المسحوقين في مملكته الا حين يحتاجهم للدفاع عن بقائه هو:


- ولكن أين شعبي الطيب؟
- لم أعد أسمعه منذ سنين
فانفجرَ الواقفون على جانبيّ الرقعةِ بالضحكِ
- لقد تأخرتَ يا سيدي في تذ ّكرنا,
ولم يبقَ لنا سوى أن نصفــِّقَ للمنتصر ِ الجديد
(رقعة وطن – صــ15)



ويستمر الشاعر في فضح حالات الاستبداد كحالة القتل الجماعي:



( الذين صُفُّوا في ساحة ِ الإعدام)
(اتهام – صـ 19)



أجمل ما في هذا الشاعر كونه يكتب بعفوية انسيابية لذا تأتي القصيدة عذبة,
شهية لا تستعصي على القارئ العاديّ, لكنها في الوقت ذاته تخاطب القارئ
المثقف عبر لمسات جمالية تنسج حريرها من كلّ الخيوط
فيأتي نسيجها متفردا, كما جاء في هذه اللمسة الفلسفية:



لحظة الانعتاق الخاطفة
بماذا يفكر السهمُ
بالفريسة ِ
أم...
بالحريّة
(سهم- صـ 31)



أو تلك اللمسة الانسانية في قصيدة (نقود الله – صـ 31)
حيث يصور الشاعر انعدام الانسانية في زمن مُبتلى بالمادية , فالكل يركض وكأنه الى حتفه يركض, وما من أحد يعطف على ذلك المكفوف المتسول الذي مدّ يده طويلا فما أتته الا رحمة من السماء على شكل بعض قطرات مطر, وكأنها نقود الله ,هطلت لتطفئ لظى يده الممتدة نحو قلوب لا تراه بل وحتى لا تشعر بوجوده ككائن له حق الحياة كغيره ممن مروا به وخاصة هؤلاء المكتظين بالأموال.
وما أكثر تلك اللمسات الابداعية في هذا الديوان..!!

وهنا نتساءل,
, هل هنالك أجمل من نصّ يأتي في متناول استيعاب القارئ فيحرك فيه ساكنا
بحيث أنّه يحرضه على رفض الخنوع , فدروس التاريخ علمتنا حتمية انتصار
المظلوم على الظالم مهما تمهل الزمن, كما جاء في قصيدة:"درس في التاريخ"
للصائغ حيث ينذر بانكسار امواج الزمن على صخور صمود الشعوب المنحنية:


ونحن نتأمل خرير مياه التاريخ
ونبتسم بعمق ٍ
لأمواجهِ التي ستتكسر عما قليل
أمام صخورنا
(صـ - 24)


عدنان الصائغ









"معجمُ بكِ"
للشاعر محمد حلمي الريشة
أنموذجاًالنصّ المُناور يتطلَّبُ قارئًا مُناورًا



على عتبة عُنوانٍ جماليّ مُربِك كهذا، تضطر أن تتمهل كي تخلع عنك نظرياتك النقدية المُسبقة، ومخزونك الأدبيّ، وتتأهب لعبور الضفة الآمنة لهذا البحر الشعريّ إلى العُمق، حيثُ اللآلئ اللغوية، والصور الشعرية المبتكرة، والأمواج الشعريّة المتمايزة.

يعتقلك عُنوان الكتاب فتتورط به.. تدركُ أنَّ هذا الأفق الشعريّ لن يمتدّ كالسهل أمام خطواتك، بل يتوجب عليك أن تجتهد؛ تطرح التساؤلات.. تبحث.. ترتقي سُلَّمَ الأفكار والصور كي تقطف الدهشة الشعريّة.

هكذا، يفرضُ الشاعر شرطه الأول لاقتحام عالمه الشعريّ ألا وهو ضرورة أن تكون قارئًا يقظًا، يناور النص صعودًا إلى الذروة، فإذا بك تدخل متاهة العنوان لتبدأ بالتمحيص كي تسلمك مفاتيح القراءة اليقظة، ولأنّ الشاعر قد أطّر هذه التجربة الشعرية بعنوان: "معجمٌ بك"، تتساءل ما دلالة هذا العنوان؟

تحملُ كلمة "معجم" معناها المعجمي المتداول، غير أنّها ترتبط بعلاقة غير متداولة مع الكلمة المجاورة لها: "بكِ"، ما يباغت الذاكرة بالتعبير المخزون: "معجبٌ بكِ"، مُوَلِّدًا "الصّدمة الجمالية" الأولى التي ستشحن القارئ اليقظ بالطاقة الضرورية للخطوة التالية إلى العُمق، وما يضفي مسحة جمالية على العنوان كون الشاعر قد وضع الحرف الأول (م) من اسمه مكان الباء في معجب، فبدا كأنّه يعترف للملأ أنّه هو الشاعر( م..) معجبٌ بها، والشاعر يُوقّع رسائله بالحرف الأول من اسمه كعادة بعض الأدباء.

ترتبّ أوراقك، فتجد أنّ الشاعر قد شهَر في وجهك بطاقة العبور الأولى، فتُدرك أنّه يمتلك معجمًا لغويًّا متفردًا، في محاولة يقظة للخروج عن المكرر المتداول، وهذا المعجم الذي يمثل مشروعه الشعريّ الجديد، المطروح في هذه المجموعة، يرتبط بالذات الأنثوية ثلاثية الأقانيم: الأنثى، والقصيدة، والذات الأنثوية الرقيقة القابعة في صدر الشاعر.

وإذ تخطو الخطوة التالية، تتورط ثانية بفصول المجموعة، فتقرؤها بمسار أفقيّ: "ما قبل، ما بعد، جويس"، فتهرع إلى المخزون المعرفيّ لتتعرف إلى "جويس منصور" التي كرّس الفصل الثالث لها، بل وضمّن النص بمقاطع من مجموعتها "صرخات". تكتشف أنّها شاعرة وُلدت لعائلة مصرية سنة 1928، وانضمت إلى الحركة السريالية، وبقيت وفيّة للمشروع السريالي كتابة وسلوكًا حتى وافاها الأجل في باريس في 28 أغسطس 1986. هذه المعلومات تطرح جانبًا إمكانية أن تكون جويس هي إحدى أقانيم الذات الأنثوية المرتبطة بهذا المعجم الشعريّ، فالفارق العمري بين كونها من مواليد 1928 وكون الشاعر من مواليد 1958، يطرح جانبًا إمكانية كونها الحبيبة، ويضيء أمامك احتمال استعمالها كرمز للحركة السريالية، فتعيدُ قراءة فصول الكتاب على هذا النحو" ما بعد، ما قبل، الحركة السريالية" وتتملّكك الدهشة. تعودُ لتربط ما بين العنوان وفصول الكتاب فتجد أنه يتماشي مع ما توصلت إليه من إدراك، فالحركة السريالية تعتمد على الأشياء الواقعية فتستخدمها كرموز للتعبير عن الحلم والارتقاء بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي، وقد وصفَ النقاد اللوحات السريالية بأنها تلقائية، فنية ونفسية تعتمد على التعبير بالألوان عن الأفكار اللاشعورية والإيمان بالقدرة الهائلة للأحلام، وتخلصت السريالية من مبادئ الرسم التقليدية في التركيبات الغريبة لأجسام غير مرتبطة بعضها ببعض .

هنا تتساءل: أهي إشارة من الشاعر أنّ نصوصه غير تقليدية، وأنك ستصادف تركيبات لغوية غريبة بدءًا بـ"معجمٌ بكِ"، وأنّ عليكَ أن تجتهد لتفكك مدلولاتها؟

لقد تخلص الشاعر من الارتباطات المتداولة بين الكلمات ففجّر طاقاتها وأتى بتركيباتٍ مبتكرة غريبة وغير تقليدية، تمامًا كما السرياليّ، لكنه مضى ما قبلَ وما بعد السريالية التي تهتم بالمضمون لا بالشكل، فتبدو لوحاتها غامضة معقدة، فاهتم شاعرنا بالمضمون كما بالشكل، وأتت نصوصه طازجة شهيّة، تحتاج إلى قارئ مُتذوّقٍ يقظ كي يسبر جمالياتها.

تعدّت القصائد مرحلة الإعجاب إلى الهوس إلى الحلول روحين في جسد واحد، وهل أجمل من نصّ يوشوش في المقطع الخامس من قصيدة "نشيش" (ص30):

بِصَلِيبِكِ وَدُعَائِي؛
أَقْلَعَتْ عَنْقَاءُ الشَّوْقِ بِرَفِيفِ أَجْنِحَتِنَا/
نَحْوَ مَحْمِيَّةِ
الوَجْد!
أليس النشيش هو صوت الماء إذا غلى؟! ألا تسمعُ صوت الحبّ وهو يغلي على نار الشوق إذ اتحدت المعشوقة مع العاشق، فأدّى هذا الاتحاد داخل القصيدة وخارجها إلى انتفاض عنقاء (الشوق) من رمادها، فكأنّ الشوق انتفض من مواته ليحمل الحبيبين الطائرين (رفيف أجنحتنا) لينقلهما إلى محمية الوجد؛ هذا المكان الذي يكفل البقاء للأجناس التي قد تؤول إلى زوال. هنا في هذه المحمية، أو الفردوس الأول، تعود الطبيعة إلى سيرتها الأولى، فيعود العاشقان إلى طفولة ما قبل الخطيئة، ما قبل السقوط أو الهبوط كما جاء في النصّ الشعريّ:

كَأَنَّكِ طِفْلَةٌ تَعِدِّينَ بَاقِي المَسَافَةِ..
كَأَنِّي طِفْلٌ أُعِدُّكِ شَهْدًا لِشَفَا شَفَتَي..
كَأَنَّا طِفْلاَنِ كَبِيرَانِ يَهْبِطَانِ العُمْرَ إِلَى
أَوَّلِه!
(قصيدة "نشيش"، ص29)
محمية كهذه تكفل للعاشقَيْن عدم زوال الوجد واتحاد الذاتين المنفصلتين، فينصهر الجسدان العاشقان روحين في بوتقة جسد واحد، ما يستدعي سقوط الحركات اللغوية عن (أحبّكَ- أحبّكِ) إذ سيحيا الاثنان ككيان واحد:

كِتَابَانِ نَحْنُ؛

بِوَرَقةٍ وَاحَدِةٍ

لِمَوْضُوعٍ وَاحِدٍ:

أُحِبُّك..

بِكَافٍ مَفْتُوحَةٍ هِيَ أُفُقُنَا،

وَذَاتُهَا بِالْكَسْرِ انْحِنَاءً فِي الْعُبُورِ.

( قصيدة "جنوح"، ص47)



أو:
وَاشْتَعَلْنَا شَمْعَتَيْنِ؛

بِذُبَالَةٍ وَاحِدَةٍ.

(قصيدة "حواس"، ص23)
هذا الانصهار الحسيّ/ الروحي يستدعي تبادل الأدوار النفسية، فيحلّ (هو) في الذات الأنثوية كي يستميل في المعشوقة الذات الأنثوية، وتحلّ (هي) في الذات الذكورية كي تستميل فيه الذات الذكورية فيكتمل الكيان العاشق:

أَنَا وَاحِدَتُكِ هُنَا

إِذًا..

أَنْتِ وَاحِدِي.

(ص23)
هذا هو الشاعر محمد حلمي الريشة المتورط الأبديّ بالأنثى/ القصيدة التي يعشقها، لذا يشتهيها الأجمل بين النساء، بينَ القصائد.












قراءة في ديوان
:"مؤقتا.. تحت غيمة"
للشاعر السعودي
محمد خضرالغامدي



عرض ريتا عودة


محمد خضر,
عشتار , لم تمرّ ب " مؤقتا تحت غيمة "
( لم أر عشتار ...لم تمر من هنا )(صـــ11)
أمــّا أنا فقد مررتُ
به من الألف للياء , وشهدتُ على أنّ القصيدة بكَ ابتدأت
قالت : هل بدأت القصيدة؟
قلتُ لن أبدأ شيئا يفنىصــ10
فقد كنتَ شمعدانـــًا
في أرض مظلمة , زرعتَ مملكة , بامكانها أن تضيء داخل القارئ
متاهات الأسئلة بالألوان:
(متحديا بذلك هؤلاء المتسربلين بالبياض والذين يرونك يافعا - أسودا )

مرّ زمن بعيد
قبل أن نرى الصبي
الأسود

يمرّ من هنا
منذ أن مرّ مبتسمًا
فأضاء في داخلنا
أسئلة
الألوان
وبشاعة الأشخاص الملتفين بالبياض" صـــ64


عرفت كيف تصرخ : لا , تتحدى ظلام القبيلة , وتجلس في النور:
"اللاءات التي
تحتضنها الرمال
كونت الاشجار والبحار
والشعراء
والقول المبين"


من قال يا محمد أنّ حبركَ قليل؟
سأبدأ .....وحبري قليل " صـــ26 "


لقد أخضعتَ تجربتك الأولى لشحنات وجدانية قادرة ان تختزن الكثير
من الرؤى التي تلامس الهموم الوجودية الكبرى للانسان .

العدو

" حلفتُ لن أكتب عنك شيئا
إلا بدمي أو بدمك " صـــ59

ها أنت تعلن جهادك على الخصم ( أيا كان ) حتى آخر رمق ,
متكئا على لغة سهلة تتحرك بطاقة ايحائية عالية
تلجأ احيانا لبعض غموض يفرح قلب القارئ المثقف:


" مرة تسلقت شجرة
مرة تسلقتني شجرة "

(احتمال : أحيانا أتغلب على "الحزن" , أحيانا يتغلب الحزن "علي")

ها أنت تستثمر التراث والحكايا لتقدم نصا دسما شهيا:

افتضاح

صياح هذا الديك يعني:
في حالة البقاء في مكاننا
افتضاح أمرنا ...." صـــ59

(صياح الديك يعيد للذاكرة حكاية الف ليلة وليلة)
وها أنت تشكل رؤاك باسلوب يضع القارئ فى دائرة الجاذبية والدهشة

"من نافذة الآخرين
لا نرى إلا أشخاصا يشبهوننا
يلعبون في الوحل" ص53


ها أنتَ يا محمد تصطاد القارئ بذكاء , عبرَ لمسة فلسفية شفيفة ,
إذ أنك تخبره أنه حين يضع نفسه مكان الآخر ليحكم على موقف ما ,
يستطيع أن يرى التشابه بين تصرفاته وتصرفات الآخر ,
فكلنا معرّضون للعب بذات الوحل , أي لاقتراف ذات الأخطاء.



وفي قصيدة :

شجاع

" لو سمحتَ أعرني
هذا الجــُبن عند إعلان الحرب
أعرني فإني شجاع" صـ63


هذا الاتكاء على بــُنية التـّضاد والمُفارقة الجارحة
( شجاع - جبان)
منحت قصائدك التوتر الشعري الفعال , والأمثلة كثيرة .


ومن سمات قصيدتك التوظيف الواعي للمصطلحات الأجنبية :


لاتكترث

"لاتكترث إن شتمك أحدهم
في آخر سهرة البلوت
ستصبح مثلهم فيما بعد"

(البلوت : مفرده رديفه للعبه الورق الكوتشينه )


فضاء

"عازف مر بحضرتها
فتنة تجر خطاها
وعصير ينسكب
والرقص مدار
حان وقت المباغتة
أكا تشنكا تومي" ص 20

(كلمة معناها : أحبــُّكِ )


"سنعد ما نستطيع
من رباط الخيل
والخطب العصماء
والاء الخجولة
ثم نمضي لتحرير أنفسنا
من فوبيــا"الآخر"
والانقياد للمرعى" صـــ21

(فوبيا = الخوف من )

, تم ّ توظيف المصطلحات بشكل واع ٍ لتشي بواقع ملموس لا بوهم
فالشاعر يؤكد لنا على أنه يقرأ (يرى) اللحظة الآنيــّة , ويفضح حالاتها في النور :


من الأسماء الآنيـــــة التي وردت : جينيفر لوبيز , الموناليزا فيروز , أنسي الحاج , بيكاسو (ص) 36
جاكلين صــ 61، 65
هذه الأسماء تــُثري
. النص , وتخلق كونا واقعيا, من حروف , داخل الكون الأكبر

وها أنت تتجول بين اللحظات بمنطق الوجودية :

"مرّة ونحن نتكلم عن حالة الطقس
سقطت ثلوج الحكمة ,,, والوجودية" ص 18

وها أنتَ
تنــــّقب عن الحكمة في هذا الزمان , يرى الأشياء بعين المــُخرج المسرحي الذي
يفصل ذاته عن النص ليكتب عنه بموضوعية :

عذرا "عذرا
إني أكتب من سطح الجيران" صــــ16


و تتجلى في ثوب الشاعر النبي الذي يحمل رؤيا التغيير الاجتماعي
وبعث حضارتنا الراكدة :


"حضارتنا المسحوقة برائحة القبيلة" صــــ23

صـــ23 " ربما أصنع الآن معجزة "

" ليتني أخبرتُ أمي أنني شمعدان وأن الأرض مظلمة"

" " وأغادر في الشمعدان المضاء وأقرأ وجهي مرارا سأحلب عصفورتي " صـــ33

تتكرر مفردة "شمعدان" كرمز للنبوءة أو الاضاءة في زمن العتمة.

وها أنت تشير الى مفردات الفردوس اليباب ( ظروف الحياة بما فيها من قسوة):

"هل كنتُ وحدي
وأنا أقرأ الفردوس اليباب
وبقايا مزمار كنت انتسب اليها" صـــ6


و تبحث عن فردوس آخر , فردوس أخضر , فردوس من كلمات ,
بعيد عن كل قلق وجودي:


" كنت أبحث عن فضاء يليق بي ,
كنت أبحث عن وقت أضع رأسي في عقاربه وأنام " صــــ7

متحديا المسافات والأمكنة عبر هذه الرحلة الشاقة الى نبع الكتابة التي لن تفنى:

" بعد أن كنتُ في تحدي المسافات
واجترار الأمكنة " صـــ30

وحين يتكرر (موتيـــف) الوحدة وعزلة الشاعر عن الآخرين( المجتمع )
يقرر أن يواجه قــــُوى الظلام والظلم:



صــــ6 " ... هل كنتُ وحدي وأنا أقرأ "

ويدرك انه لم يكن وحده حتى لو تخلت " المجموعة عنه ,
كفرد يحق له الانتماء اليها !
فهو يملك : قلما خبيرا في اصطياد اللغة , لفضح حالات آنية ,
فالحبـــــر سلاح في يد كل من يتقن نزيفه.



لقد اخضعتَ تجربتك الأولى لاحتمالات غيمة (طقس وطقوس الشتاء) ,
فأجدتَ البكاء - الغناء – الصراخ في وجه العتمة ,
, لينبثق عن عملية الخلق الابداعي فردوسا أخضرا من التين والزيتون


" لو أجيد البكاء – الغناء
في العتمة
لاستدليت على خاتمة النبع
لكن كفي غيمة
قمر أخضر
ينسكب
تتكون المسطحات الخضراء
والتين
والزيتون
والشعراء " صــ26



يبقى السؤال : ماذا بعد؟

لكي لا تفنى النصوص
(: كما اشتهيتَ لتجربتك الشعرية في كتابك في أكثر من موضع )


" لن ابدأ شيئا يفنى
لن تنالوا الشفق" صــــ 10


عليك يا محمد أن تبحث من الآن عن الفصول الأخرى:
, صيف , ربيع , خريف وبعض من هذا وذاك.

ارحل مجددا الى المحيطات التي يخشى الكثيرون الاقتراب حتى من شواطئها :


" ولي رغبة في المحيطات
وأني قد لا أعود" صـــ25


لتعود لنا بفاكهة شعريــّة شهيّة :


" لنرحل خلف التخوم
التي لم ينلها أحد
لنبحث عن توتة ناضجة
وصراط حميد " صـــ41


بامكانك أن تشق نهر التجربة الابداعية لتعبر الى الضفة الأخرى , لترحل الى نبع التفرد والتميز :


" في الضحى القادم
سوف نحزم حقائبنا
ونرحل للنبع " صــ42

لن تكون وحدك , فأنت خبير في اصطياد اللغة التي تفرض حضورها على القارئ
وتستميله أن يفتح النافذة , ليرى كهذا ابداع !


محمد خضر الغامدي














يوطوبيا الهيجاوي
قراءة في المطولة الشعرية :
" حين تبكي فاطمة "
للشاعر الفلسطيني باسم الهيجاوي



حين تقرأ الهيجاوي, يتملكك إحساسٌ أنّكَ في المدينةِ المثالية الفاضلة حيثُ النقاء الداخلي للفرد ينبع من النقاء الخارجي للطبيعة الحاضرة بشكل مكثف بعصافيرها, أنهارها, ندى فجرها, غزلان مراعيها, زنابقها وأقحوانها, نجوم سمائها وأمطارها:


" ووجهكِ خامة الكلماتِ ،
أغنية نَمَتْ
عصفورة للدفءِ ،
غزلاناً تفيض بها المراعي ،
حين يسرقني اندفاعي ،
نحو نجمٍ يقتربْ
آخيتهُ أفقاً لنافذةٍ تطلّ على بلادٍ ،
كنتُ فيها أغتربْ "

لكن, سرعان ما يصدمك الواقع فتسقط عن السلَّم العالي لتوقعاتك المسبقة لتكونَ شاهدًا على تراجيديا انفصال, لا آدم وحواء عن الجنّة , انّما انفصال حواء عن آدم , المتمثلة بفاطمة:

" لأعود في فوضى العتابِ ،
مع التوجّع والعذاب ،
مع الشجون تردُّ لي
حلماً ليبقى شارداً في المقلتينْ
أو فاقداً جسداً تسمَّرَ في سحابة دمعتينْ
أو أعلن الآن انهزامي ،
من حريق الماءِ ،
أو أبكي ،
وأحرق ما تبقى من صوَرْ
كي لا أظلّ على سفَرْ "

وهكذا يصابُ قارئُ (حين تبكي فاطمة) بخيبة أمل وهو يلمس كثافة الحبّ المخزون في قلب هذا العاشق ولا تري للإنفصال سببا سوى كون فردوس هذين العاشقين خياليّة أمّا الواقع اليوميّ المعيشيّ فمأساويّ يفتقد المشاعر النقيّة التي صوّرتهاالقصيدة:

" يا أجمل امرأةٍ عَرَفْتُ ،
وأجمل امرأةٍ أُحبُّ ،
وأجمل امرأةٍ تُخبّئني يداها ،
في حقول الأخضر المنسيِّ ،
هل جفَّت حقولي ، كي أرى
جَرَس النهاية يُعلن الآن انكساري ،
في دمارٍ مُرتَقَبْ ؟ "


وتظلّ الأنثى ذاتًا مُغَيَّبة ً في النصّ كما هي مغيّبة عن حياته, حتّى أنّ القارئ يخال أنّ صوتَ القصيدة أعلى من صوتها وحضور القصيدة اهمّ من حضورها :


" عشرين عاماً ،
أغرسُ الأشعار تحت نوافذي
وأخطُّ للوجع الجميل مداد صوتي ،
حين يورق عن كَثَبْ
...
عشرين عاماً ،
آهِ ، من عشرين عامْ
وأنا أزفُّ قصائدي
وطناً جديداً للكلامْ
أسقي الصهيل لخيل أيامي ،
وأطلق كل قافلةٍ ،
وأركضُ خلف حاديها ،
لأرسم نجمةً
غَرِقَت طويلاً في الظلامْ
لأعود في فوضى الغَبَشْ
وتعود ملآى بالعطشْ
في نار شهوتها ،
وحاديها ينامْ "


حين تقرأ الهيجاوي تخال الحبرَ يتدفق من محبرة خياله بغزارة لحظة مخاض القصيدة ليكشف عن نَفَس ٍ طويل ٍ في الكتابة والذي بدوره يعكسُ ذاتًا مثقفة تملكُ أدواتها بحرفيّة عالية, وتعرفُ من أين تؤكلُ كتفُ القصيدة السهلة الممتنعة التي تُفرح قلب قارئها بقليل من الغموض وكثير من الدهشة الجمالية بما تأتي به من صور ابداعيّة تجعلك تتمهل لتتأمل بمتعة شعريّة خالصة:


" هل كانت ليَ المرآة وحدي ، أمْ لنا ؟
نحن الذين تفرَّقَت أسرارنا
بين البلادِ ،
وصرتُ وحدي اوقظ الذكرى ،
بسوء المنقلبْ ؟؟
وعلامَ تأتيني الطفولة في الكهولةِ ،
تستريح على تعبْ ؟
وعلامَ يأتي الميّتونَ النائمونَ على سريرٍ من خشبْ
يسْتَذْكرونَ دروسهمْ ؟
ويراجعون قصائد العشق التي خبَّأتها ؟
والناس من حولي أفاقوا ،
حين ماتوا ،
يرقصون على نشيد جراحهمْ
يترنَّحون من الطربْ
وعلامَ لا تأتي القصيدةُ ،
كي تثير بنا الموات ،
وما تكدَّس من عطبْ ؟
ولمَ النوارس غادَرَت شطآنها ؟
ولمَ العصافير التي ارتاحت لديَّ تفرُّ منّي ،
نحو ألسِنَة اللهبْ ؟؟ "


حقًّا , مَنْ لا يستطيع أن يكونَ مدهشًا عليهِ الا يُناوش الورق ...!!!

باسم الهيجاوي

الحوار المتمدن - العدد: 1291 - 2005 / 8 / 19
-utopia -
دنيا مثالية وبخاصة من حيث قوانينها وحكومتها وأحوالها الاجتماعية








الْمَرْأة في مَـرَايــَا د. صَالِح سَعِد
دراسة حول رواية - أيام الغربة الأخيرة



تَضَعُنَا رواية " أيام الغربة الأخيرة " للكاتب المصري د. صالح سعد .. مع تعاقب الأيام..أيام الغربة الأخيرة.. كلّ أمام مِرآته.. لنتساءل أحقُا لا شيء حقيقيا إلاّ ما هو مُرعِب.. كما هي الحال في رواية فلسفيّة من نوع أدب الاعترافات هذه بكل ما فيها من تداعيات وشحنات حقيقيّة صادقة حتى حد المقصلة للذات!!

" لم أنسَ قط مِرآتي.. أحملها أينما ذهبتُ.. أطالع فيها وجهي كلّ صباح لأتأكد أنني ما زلتُ ذاتي…ولكنّي أفتش اليوم عنها فلا أجدها بين أشيائي.. يملأني رعب هائل من مصير مجهول مروّع ينتظرني إذا استمررتُ هكذا في الحياة هنا دونها.. دون الْمِرآة.." ص130

يتكاثف موتيف "المِرآة" ليحمل معنى "الْمَرْأة".. هذه المرأة "الكيان" التي لا يستطيع الكاتب الحياة دونها.. خاصة هناك في منفاه حيث تنعدم الإنسانيّة ويحلّ مكانها الفراغ العاطفي المتمثل بالبحث المتواصل والذي امتدّتْ جذوره إلى ما يقارب الأربعين عاما وأكثر ..عن توأم الروح.. فلم يبقَ منَ العُمْر بقيّة قبل أن يعثر على هذه المرأة الكيان التي من الممكن أن تروي عطش قلبه للحب النقيّ كالذهب الخالص.. المُنَزّه عن المنفعة والمصالح الماديّة..

لكنّ من هي المَرَأة التي ما زالَ يبحث عنها كبحثه عن وهم ساذج!! أهي المَرْأة " الظِّلّ" ؟! التي احتلّتْ كيانه بصورة تشبه الاغتصاب واحتلّت كلّ عتبات حياته حتى اللحظة !!هذه المرأة التي أتت بوجوه (أو أقنعة) متعددّة.. فما كانت إلاّ "جسدًا" أعملَ فيه كلّ أساليب الإغراء لاصطياد رجولته .. فكانَ لها ندّا وأعمَلَ عليها أقصى درجات الفحولة وكلّ أساليب اصطياد النساء والتي تبدأ بكلمة " أحبك" هذا الطُعْمَ الذي يلين له قلب أيّ امرأة. ولم تكن هذه المرأة الظلّ باعتبارها جسدًا إلاّ تلك العاهرة الصغيرة التي امتّصت رجولته بهويتها البشعة.. وتلك المرأة المتزوجة الخائنة التي كانت تعود لسرير الزوجيّة تستلقي قرب مخدوع ما لا يعرف ما في باطنها من غشّ.. هذه المغامرات الفارغة تركت في ضميره خُدوشًا أبديّة.. هو رجل الميزان الباحث دومًا عن العدل والاتزان!! فقرر أن يصوم عن النساء وأن يرفع راية "ربنّا نجنّا من التجربة"(الإغواء الفارغ).. وأن يمارس فُرَاق أنثاه " الحقيقيّة" ليدركَ عُمْقَ المحبّة!! ص132.

أهيَ المرأة التي تزوج منها وأنجبت له ابنته معبودته "مريم " (للتشديد على حاجة المرأة الى الطهارة) والتي تخلَّتْ عن مهمة الأمومة (لقد اختارت طموحها العاجز بدلا عن دورها الحقيقي في رعاية زهرات العمر..ص134 وتخلّتْ عن عمق حبه لها(ص136).. فهي المرأة الوحيدة من بين كلّ النساء اللاتي كتب عنهنّ التي تتجسد داخل الرواية وترتدي صوتها هي لا صوت الغائبة وتخاطبه بعتاب ومرارة ممّا يشير الى تأثيرها الواضح عليه..والتي تَوَجّتْ تلك العلاقة بالخداع والطلاق والنفقات الماديّة ممّا أثقل عليه وجعل منه مخلوقا عاجزا.. مترددّا.. مقيد الأطراف.. مُكَبَّل الروح(ص133) وجعل من الآخرين جحيمًا ومن الذات وهم(ص123) وولدّ لديه الشعور بالاختناق وليلهمنا الله الصبر على احتمال الآخرين..ص131..والحاجة الى الانسلاخ عن المجتمع المُنافق الذي يتعاطى ارتداء الأقنعة ..حتى للحبّ والصداقة.. كمبدأ حياة!! "أكاد أختنق.. ولا أفعل.. أغادر اللا مكان الى "لا مكان" آخر لعلني أجد مَنْ لا يتعرّف على صورتي المهشمّة.. فأستريح قليلا من عُبور المُشاة بين طُرُقاتي الداخليّة المزدحمة.."(ص135).. وها هو يحيا حسب مبادئ الجميع.. يلبس قناعا تلو القناع.. وهو الممثل البارع بطبعه.. وها هو يتسلّى بضحاياه.. الذين عبروا حياته وأرادوا امتصاص دمّه ومنهم ما يدعونهم المجتمع أصدقاء ومنهم النساء الظلّ.. وها هو يتغذى بهم قبل ما يتعشون به.. وهو بذلك يعكس الحياة نفسها في مِرآة الواقع.. وهو لذلك يُعاتب النقّاد الذين يتهمونه بالسوداويّة ويشهر سيف الواقع في وجوههم إذ يقول (فيما إذن يتهمني البعض بالتشاؤم.. لأني اشتهيت الموت..وأدركتُ طعمَ النهاية!؟… فما أنا.. سوى كاتب واقعي واقعيّة النظام العالمي الجديد..ص124).نساء الظلّ.. دفعن به للبحث عن الذات المهشمّة خارج الوطن الأم مصر وفي الكويت.. حيث عمل مدرسا للمسرح لطلاب يهمهم الامتحانات والعلامات أكثر ممّا يهمهم تحقيق الذات..ممّا يجعله يتساءل..أهذا هو الحلم الذي نفى نفسه عن صدر وطنه من أجله!؟ وتصبح المرأة في خياله مجرد "استحواذ نسوي" ويصبح تلفون من امرأة في الصباح المبكّر..مصدر إزعاج نسائي(ص125)وتتملكه خيالات مروّعة للنساء إذ يرى فيهن أشكال أفاع ٍ متدليّة…وها هي زوجته وعلى لسان صديق(لدود) "تفعل ما يحلو لها"(ص135).. ويتظاهر هو بالبرود !! وهكذا تصبح خلاصة هذه العلاقات الفاشلة مع هذا النوع من النساء "…مرايا جارحة تُدَمِّي العين والقلب معا.."(ص135) وتتناثر مشاعر الوحدة واليأس والكآبة والتشاؤم وحتّى الرغبة بالانتحار..كالصخور العنيدة على مدى أيام الغربة داخل وخارج إطار الرواية.. ويصير ارتداء الأقنعة حاجة ملحّة من أجل البقاء.. فيرتدي كغيره جميع الأقنعة.. إلاّ قناع الذّل والهوان..فالحسّ المعنوي لديه ما زال وسيظل مرتفعا.. ولن يبيع ضميره من أجل المصالح الشخصيّة كغيره من عامّة المجتمع! "أكبر الصغار يبنون صروح المجد الهشّة فوق الموائد العامرة التي يهرع إليها محترفو هزّ الخصور وفرقعة الأصابع بحضرة الدينار"(ص131).. وما زال يحنّ لمصر الأم..هو اليساري الناصريّ..الذي لم تلوث تربته أيّ غربة.. ويتملكه الفخر والاعتزاز بكونه مصريّ القوميّة ولا يُنكر بطاقته حين ينكرها عليه الآخرون الذين يرددون في وجهه بحماقة: إنتَ مصري! مش معقول! وكأن المصري أدنى مرتبةً من غيره!؟؟؟

ولكن.. وبالرغم من أنّه لم يلقَ إلاّ "النكران والاستلاب"(ص128) في بحثه اللاهث عن الحبّ .. حين كان الحب والمال نقطة ضعفه الوحيدة.. إذ دخل حربًا مُهْلِكَة مرغمًا يحارب غير معركته.. من أجل تسديد حُفنة ديون نسويّة(ص125).. إلاّ أنّ القلبَ ما زال نيئــًا يشتهي القطاف.. رغم تعدّد الزيجات.. وتوالي التجارب هنا وهناك..(ص136) وما زال وخز حلم ثقيل يلاحق خياله.. إنه "حُلُم المرأة الكَيــَان" التي حين ينظر في وجهها يرى ذاته والتي حين تنظر في وجهه ترى ذاتها..وكأن أحدهما مرآة للآخر..توأم الآخر. إنّها المرأة الحقيقيّة لا الظلّ.. المرأة التي توازيه عقلا وثقافة وجمالا ورومانسيّة.. أمّا بقيّة النساء الظلّ فقد كن مجرد ظلال..جرحتْ مِرْآته الحقيقيّة وتركت ندوبا لا يمحوها لا الزمن ولا يد المرأة القادمة من أعماقه.إنهن أشباه نساء.. إمّا أجساد أو أن مواهبهن الفنيّة ما كانت إلاّ قطرات من بحر المعرفة والاكتمال لديه.. لذلك لم يرقين الى مستواه الإلهيّ فهو رسام وممثل ومخرج وكاتب وشاعر..والعقل بالنسبة له متعة لذلك يُكثِرُ من الجدل الفلسفيّ كأسلوب حياة..

وهكذا أنا لا أرى كغيرى من النقاد أنّ الرواية مشبعة بالسوداويّة ..إنمّا أرى أنها مِرْآة صادقة لواقع النفاق على جميع المستويات.ولعلها دعوة للمرأة أن تصحو من سبات المظاهر وأن تسعى لتكوين اتزان مُلِّح بين ما هو باطن وما هو خارج!!

وأخيرًا.. تظلّ الكتابة..سلاحا نحارب به الكآبة..وتظلّ الكتابة..وسيلة ودعوة لإشباع وتحقيق الذات بالرغم من كلّ ما في الحياة من أيام غُربــَة… وَمَـــــنْــــــفَـــــــى !!


د. صالح سعد

الحوار المتمدن-العدد: 1177 - 2005 / 4 / 24
أيام الغربة الأخيرة
رواية من أدب السيرة الذاتية
دار الحضارة،القاهرة2000











نصوص تجريبيّة رهن التّدقيق
للشاعر تركي عامر


هي نصوصٌ تتظاهر بالتجريب غير أنّها مفخخة تتطلب أكثر من قراءة لفكّ جمالياتها.
يفتتح الشاعر رحلة المشاغبة بمفردة "الكلمة" فيمنحها المقام الأعلى في سلّم أولويات القصيدة، لا بل ويمنحها القدسية لكونه يرى أن حروفٌها مضيئة ٌ ، مشتعلة ٌ ، قادرةٌ على حرق الأرض اليباب ، أي أرض القصيدة العامودية الـ تعاني من الخراب، الجفاف.
الكلمة الثورية الحارقة تسعى لحرقِ العشب الجافّ لكي تُهيء الأرض لقصائد ثورية. والشاعر المشاغب يعلنها حرب منذ البداية " الحبرُ حربُها الضَّرُوس /عليها وعلى أعدائِها الخُلَّب. ". وهو يحيل القارئ الى المرجعية الدينية ، الى الحرب التي شنّها الجبّار شمشون على أعدائه بعدما استدرجته دليلة لكشفِ سرّ قوتهِ فصرخ: "عليّ وعلى أعدائي يا ربّ". ولعلّ القاسم المشترك لهذه الحرب هو الضعف البشريّ حيال الحبّ ، لذلك يُصرّح الشاعر : "الحبُّ حبرُها المتدفِّق". ويرى أنّ حربه الضروس مع ذوّي العقول المتجمدة التي ترفض التغيير هي حرب مستمرة ، الغالب فيها هي الكلمة الثائرة التي افتتح فيها حلم الكتابة :" والحربُ ارتحالٌ لا ينام/ إلى آخرِ ما عَمَّر الحُلُم،/ لا غالبَ فيها إلاّ للكلمة،" وهي الغالبة لكونها: "دائمةِ الخُضْرَةِ والحَضْرَة.".
قد يرى المتعصبون للقصيدة العامودية أن ما هذه إلا نوبة جنون:" جنّاتٍ تفّاحُها /ِهْلِيلَجُ المجانين. ". لكنّه يعتمد في ثورته هذه على ثلاث عناصر بالتتابع: الكلمة، الحبّ والحلم. والشاعر يثق أنّ قصائدَهُ التي تبدو تجريبيّة ، من وجهة نظر المتحفظين، تتخطى الزمن الحاضر وتحمل بذرة خلودها :" العقاربِ الثّلاث" ( الساعات، العقارب والثواني).
يصبغ الشاعر حروفه برحيق "الوحدة الدينيّة"، فهو يفتتح ثورته""في البدءِ كانَ الكَلِمَة"، بإحالة إلى السيد المسيح وهو المشار اليه بالــ "كلمة" في سفر يوحنا من العهد الجديد(في البدء كان الكلمة و الكلمة كان عند الله و كان الكلمة الله .(يو1:1 )، ويسارع بإحالة ثانية إلى القرآن الكريم في التعبير: " أنهارًا متلعثمات تحتَ جنّاتٍ تفّاحُها" (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) وكذلك التعبير: "صلّى الحبُّ عليها وسلَّم " وهو بذلك يحيل القارئ إلى النبيّ محمد (صلعم)، ويختتم قصائدَه التجريبية بذكر ( بوذا) بالاسم :" صورةٌ لبوذا،/خلفيّةً لشاشةٍ أقلعَتْ/ عن تدجينِ السّقوف،" وهو بذلك يرسم دائرة كبيرة تتسع للديانات كلّها وبممفهوم أدّق: للبشــــر جميعا .
ضمن هذه الدائرة، ينطلق الشاعر المشاغب الذي يهوى التجديد، وما التجديد إلا دليل على الابداع، فالأديب الذي تركد مياهه ليس بمبدع، والأدب يحتمل التجربة والتغيير، بل وأجمل ما في الأدب أنه متجدد . ضمن هذه الدائرة ينطلق الشاعر ليلتقط من هنا وهناك مشاهد تثير الأسئلة:" فصارَ للكلامِ المُباح/ نكهةٌ تعلِّمُ الحُلُم/ أبجديّةَ السّؤال "، والأدب الجيد هو الأدب الذي يأتي بالأسئلة فيحث القارئ على البحث عن الاجوبة.

أمّا بعد، وقد رحلَتِ القافية حافيةً إلى غيرِ بلاط، لتحلَّ محلَّها القصيدة التجريبيّة، التي تدفع الشاعر كالنحل الى قطف الرحيق من كلّ زهرة:

لتحلَّ محلَّها
قافلةُ نحلٍ شغوف
محمّلةً
بفواكهَ روحٍ

فهو يتنقل من وردة لأخرى ليقطف لنا ورده عطرها الحبّ وأخرى الحكمة وأخرى الوضع الماديّ المتأزم، وأخرى الوضع السياسي الراهن المتأزم .. الخ ممّا في الحياة من وجع أو فرح يستدعي الكتابة ويؤجج حلم الكتابة.

تركي عامر، شاعرٌ مغامرٌ مشاغب.. لا يخشى التجربة. يترك مرعى الثوابت الأدبيّة إلى لا عودة ويتنقل مع الفراشات في بحثه عن الذات عبر حلم الكتابة المغايرة فيؤثث القصيدة من مفرداتٍ بسيطة ، في متناول القارئ العادي، لكنه يتكئ على احالات عديدة وهو شاعر مثقف ، خصبُ التربة. وهكذا تأتي قصائده بصور شعرية طازجة كهذه الومضة اللمّاحة، الذكيّة:


ـ ما الفرد؟
ـ مسدّسٌ كاتمٌ لصوتِ الفردة.
ـ المفردة.
ـ أعتذرُ لسقوطِ الميم
مِن "لسانِ العرب".



لكَ الحياة
ريتا


نصوص تجريبيّة رهن التّدقيق





ليست هناك تعليقات: